رسالة في الاجتهاد و التقليد

اشارة

نام كتاب: رسالة في الاجتهاد و التقليد

موضوع: فقه استدلالى

نويسنده: اراكى، محمد على

تاريخ وفات مؤلف: 1415 ه ق

زبان: عربى

قطع: وزيرى

تعداد جلد: 1

تاريخ نشر: ه ق

ملاحظات: در ضمن كتاب البيع چاپ شده است

[المدخل]

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه رب العالمين و صلّى اللّه على سيّدنا محمّد و آله أجمعين.

و بعد، اعلم أنّه لم يذكر هذان اللفظان في آية أو رواية حتى يحتاج إلى التكلّم في معناهما، نعم المحتاج إلى البيان هو الموضوع للأحكام الثلاثة، أعني:

عدم جواز الرجوع إلى الغير و وجوب رجوع الغير إليه، و كون حكمه فصلا في المرافعات. فلا بدّ من الكلام في أنّه ماذا؟ فنقول: أمّا موضوع عدم جواز التقليد فهو كلّ من كان حصل له اليقين إمّا بالحكم الواقعي أو بالميزان الظاهري الشرعي أو العقلي، و لا يناط بوجود ملكة الاستنباط، بل يعمّ كلّ أحد، فلو فرض لأدنى الناس شعورا قطع و لو من شي ء لا دلالة له أصلا على حكم أو قطع كذلك بحجيّة خبر الثقة، أو بأنّ مدلول الخبر كذا، أو أنّ مفاد لا تنقض مقدّم على الطريق، أو أنّه ليس في الواقعة دليل و المرجع الأصل العملي، أو أنّه معذور عقلا و حكم العقل في حقّه البراءة، أو غير معذور و يجب عقلا عليه الاحتياط، و الحال أنّ الأمر في كل ذلك على خلاف ما قطعه و هو غير أهل لمعرفة موازين الاستنباط و تمييز غثها عن

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 408

السمين، فهو و إن كان دخوله من الابتداء في مقدّماته الاختيارية حراما و على هذا التقدير هو غير معذور و إن كان لو لم يكن عن

مقدّمة اختيارية معذورا و لكنّه على كلّ حال ليس تقليد الغير في حقّه جائزا فهو و إن كان تكليفه الواقعي هو التقليد لكن لا يمكن تكليفه فعلا بذلك، لأنّه يرى نفسه عالما و موضوع التقليد هو الجاهل، و بالجملة إن كان انتهاء أمر الشخص إلى القطع فهو بالنسبة إلى أثر عدم جواز الرجوع إلى الغير من قضايا قياساتها معها؛ لأنّ القطع مطلقا حجة و لا يمكن المنع عن العمل به و لا يجوز مخالفته، و لا محلّ في هذا المقام للتكلّم في أنّ الشخص المحكوم بعدم جواز الرجوع إلى غيره هل هو ذو ملكة الاستنباط أولا؛ فإنّه بالنسبة إلى الأثر المذكور قد عرفت عدم الفرق بين الأحوال و أنّ المناط الكلّي هو انتهاء الأمر إلى القطع، فإن انتهى فهو و إلّا فيجب عليه الرجوع إلى العالم.

و أمّا معيار موضوع الأثرين الأخيرين أعني الحكومة و تقليد الغير إيّاه فهو كلّ من كان وصوله إلى المطالب بموازين و مقدّمات صحيحة منتجة للمطالب واقعا في كلّ مرتبة من المراتب من الواقعيّات و الظاهريّات، من الشرعيّات و العقليّات، فإنّه كما أنّ الأحكام الواقعيّة اللوح المحفوظيّة لها واقع محفوظ لا يتغير و لها مقدّمات منتجة إيّاها واقعا، كذلك للأحكام العذريّة أيضا واقعيّات محفوظة و طرق صحيحة واقعيّة موصلة إلى تلك الواقعيّات، و أخرى غلطة و غير موصلة إليها، فالمراد بالعالم الذي هو مرجع الجاهل من كان خبرة في معرفة هذه الطرق و المقدّمات الموصلة إلى المطالب، بحيث كان خطاؤه في اجتهاده و بذل وسعه في معرفة الطرق قليلا نادرا، و إن كان خطأ نفس الطرق بأن كان مؤدّياتها غير مطابقة مع الأحكام اللوح المحفوظيّة غير قليل، فإنّه لا يضرّ و

المضرّ هو الخطاء في الاجتهاد، و على هذا فلو رأينا مجتهدين مختلفين في كلّ المسائل أو جلّها فلا محالة

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 409

نقطع بأنّ واحدا منهما خارج عن المعيار الذي ذكرنا.

فإن قلت: المجتهدان اللّذان لا نشكّ في كونهما واجدي الملكة قلّ أن يتّفق اتّفاقهما في الفتوى في المسائل و هذا ينافي ما ذكرت بل لا يرى من أوّل الطهارة إلى الديات مسألة فقهيّة إلا اختلفت الأقوال فيها و المسائل المجمع عليها مضمحلّة في جنبها.

قلت: المعيار أحد أمرين إمّا إحراز كونه مصيبا إلى الوظائف الواقعيّة بمراتبها و غير مخطئ، و إمّا الاطمئنان بذلك بحيث كان احتمال الخطاء موهوما نظير احتمال الخطأ في الحس، و كثرة موارد الاختلاف نشأ من ضمّ خطاءات كلّ واحد إلى غيره، و إلّا فموارد خطأ كل فرد وحده قليل، كما نلاحظ في الصنّاع حيث إنّ موارد خطائه في جنب اصابته قليل و إن كان لو اجتمع خطاءاته مع غيره صارت كثيرة.

و أيضا غالب موارد اختلاف الفقيهين من جهة تردّد أحدهما و عدم جرأته على الفتوى و احتياطه عنه، لأجل احتمال عدم فحصة بالمقدار اللازم في الأدلّة و إلّا فاختلاف فتواهما قليل، كما ترى بين فتاوى الشيخ الأعظم الأنصاري و السيد الأجل الميرزا الشيرازي- قدس رمسهما-، هذا ما قاله الأستاذ- دام بقاه- و قد كان أكثر أهل مجلس الدرس على خلافه.

ثم لا شبهة في الموضوع الأوّل أعني من أحرز أنّه يصيب لا في جواز نظره بل وجوبه و لا في رجوع غيره إليه من غير فرق بين الحياة و الممات، أمّا جواز نظره فلأنّه مكلّف بتلك الوظائف و لا يعقل منعه عن فهمها و التصدّي لمعرفتها.

و أمّا قول

أصحابنا الأخباريين و تشديدهم النكير على الأصوليين فإن كان

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 410

غرضهم المنع عن مثل هذا فلا وجه له أصلا؛ فإنّ المداليل العرفيّة لها واقع محفوظ فإعمال الوسع في معرفتها أيّ مانع يمنع منه و أيّ إخباريّ لا يعمل؟ هذا في الفقه و كذلك الوصول إلى حكم اللّه بمقدّمة عقليّة، كمسألة الأمر و النهي، فإن كان غرضهم أنّه ليس للعقل حكم واقعي أصلا بحكم اللّه و مقدّمات واقعيّة إليها فممّا يكذّبه كلّ أحد، و إن كان الغرض المنع من تعرّضها فما المانع من التصدّي لما له واقع و فهم الواقع أيّ بأس به و أيّ فرق بين فهم رضا اللّه تعالى أو عدم رضاه بعمل بواسطة مقدّمة عقليّة و بين فهم المسائل الأصولية الراجعة إلى أصول العقائد بتوسّطها؟

و بالجملة مرام الأصولي ليس إلّا أنّ للوظائف بمراتبها واقعا، و إعمال المقدّمات الفقهية و الأصوليّة من العقليّة و الشرعيّة أيضا لها واقع يوصل إلى تلك الوظائف، فإن كان النكير راجعا إلى هذا فهو منع و سدّ لباب التصدّي لمعرفة الواقع بالطرق الواقعيّة، و إن كان راجعا إلى أنّه ليس لأحد الاستبداد بالرأي و الاستقلال بالحكم من عند نفسه بمجرّد استحسان و اعتبار عقلي مساعد فأصحابنا الأصوليون بريئون عن ذلك حاشاهم بتفوّه أحدهم بجوازه.

و أمّا رجوع الغير، فهذا القسم أيضا واضح لأنّ المفروض إحراز الإصابة و عدم اختصاص الوظائف بشخص المصيب، نعم احتمال كذب المفتي في إخباره عن فتواه ربّما يكون حاصلا و إذا ورد التعبّد من ناحيته أيضا فلا إشكال، و أمّا إذا كان هذا الاحتمال أيضا مسدودا فاللازم عدم الفرق بين حال الحياة و الممات؛ فإنّ المفتي مات و أمّا

أحكام اللّه فلم تمت، و المفروض إحراز الإصابة و الصدق.

نعم في القسم الثاني- أعني صورة الاطمئنان بالإصابة حيث إنّ التعبّد

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 411

الشرعي فيه ممكن- يمكن المنع الشرعي عن الاتّباع حال الممات، كما في إخبار الفاسق المعلوم عدم تعمّده للكذب.

و أمّا في حال الحياة فجواز نظر نفسه، و رجوع غيره كلاهما ثابت ببناء العقلاء حيث يراجعون في كلّ صنعة إلى صنّاعها مع كون احتمال الخطاء بطريق الوهم في حقّه جاريا فلا يعتنون بذلك، و يقدمون و إن كان الضرر الوارد عليهم في تقدير الخطأ خطيرا.

و الحاصل لا شبهة في الكبرى، و كذلك لا شبهة في أنّ العالم المأخوذ فيها هو العالم الحقيقي الواصل إلى الواقعيّات دون العالم الاعتقادي و من يزعم أنّه عالم، و حينئذ فما يرى من الاختلافات فكثير منها صورة اختلاف و لا اختلاف حقيقة، و هو ما كان من قبيل الفتوى و اللافتوى، و ما كان اختلافا فتوائيا كثير منها ممكن إصابة طرفيها و ذلك في غاية الوضوح بعد أنّ أحكام اللّه- أعني: الأعمّ ممّا يسمّى واقعيا و ما يسمّى ظاهريا، بل و لو لم نقل بجعل الحكم في موارد الطرق و الأمارات، بل بجعل الحجيّة إذ حينئذ نعبّر بأنّ وظائف العباد أعمّ ممّا كان حكما شرعيّا أم حجّة شرعيّة أو حكما عقليّا أو حجيّة عقليّة- تكون ذات مراتب كلّ مرتبة دون المرتبة الأخرى و ثابتة عند انقطاع اليد عن المرتبة العليا، فالواقع الأوّلي ثابت للواقع البحت بدون دخالة للعلم و الجهل و الوصول و اللاوصول فيه، و الواقع الثانوي أعني: مدلول الطرق و الأمارات أعمّ من كونه حكما أو حجيّة ثابت في ظرف التردّد و

الشك في الواقع الأوّلي، و الواقع الثالثي أعني: حكم العقل بالبراءة أو التخيير أو الاحتياط ثابت في ظرف انقطاع اليد عن الأوّلين، و معلوم أنّ المعتبر هو الانقطاع عقيب الفحص المتعارف في مظانّ الوجود لا الفحص التام الغير الميسّر إلّا للأوحديّ و لا الجزئي الميسّر لغير الأهل.

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 412

و حينئذ فإذا رأينا اختلاف الفتوى في مسألة بين مجتهدين يمكن أن يكون عثر أحدهما اتّفاقا أو لأعماله الفحص زيادة على المقدار اللازم على خبر في غير مظانه، مثل باب غير مرتبط بهذا الباب، أو أصل غير موجود في الأيدي مثل بعض الأصول الذي ظفر بها المحدّث العلّامة النوري- قدّس اللّه سرّه-، و يكون الآخر لعدم عثوره بعد الفحص المتعارف في المظان رجع إلى الأصل في المسألة فكلاهما قد حاز الوظيفة الواقعيّة و فاز بالصواب في الاجتهاد و الاستنباط.

و يمكن أن يكون كلاهما عثرا على الرواية و لكن أحدهما بعد الفحص في مظانّ الاستعلام عن المدلول العرفي لألفاظها وصل إلى الواقع، و الآخر بعد هذا الفحص عجز عن الجزم به و بقي على التردد و الشك فرجع إلى ما هو الأصل في المسألة فإنّهما أيضا مصيبان في الاجتهاد غير مخطئان في الاستنباط.

و يمكن أن يكون أحدهما حصل له القطع بملاحظة تتبّع عدّة من الأخبار، أو الإجماع المحصّل بملاحظة تتبّع عدّة من الفتاوى فأفتى بمضمونها، و لم يحصل ذلك للفقيه الآخر فرجع إلى الأصل في المسألة، فإنّ حصول القطع من عدد المخبرين و من عدد الفتاوى أمر يختلف فيه أوساط الناس الغير الخارجين عن حدّ التعارف و الاعتدال فيمكن كون القاطع و غير القاطع معا مصيبين في الاستنباط؛ لعدم خروج الأوّل في

قطعه و لا الثاني في ترديده عن المتعارف.

نعم بعضا ما يكون الاختلاف ناشئا من الخطأ في الاستنباط كما إذا اختلفا في الاستظهار من الرواية فاستظهر أحدهما شيئا و جزم بأنّه المدلول العرفي و استظهر الآخر خلافه و جزم بأنّه المتبادر و المتفاهم لدى العرف، فإنّه حينئذ لا محالة يكون أحدهما مخطئا في الاستنباط لكن هذا في جنب غيره نادر في خصوص المجتهدين

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 413

اللذين علمنا باجتهادهما، نعم يمكن في غير معلومي الحال فيحكم بعدم وجدان أحدهما للملكة.

ثمّ لا إشكال في جريان الأدلّة الآتية- إن شاء اللّه تعالى- على التقليد في حقّ من كان يرى الانفتاح، و أمّا من يرى انسداد باب العلم و العلمي فلا إشكال أنّه خارج عن ميزان من عرف أحكامنا و نظر في حلالنا و حرامنا، فإنّ المعرفة و النظر فرع وجود الطريق، و المفروض أنّه يرى الانسداد فكيف يكون عارفا بالأحكام ناظرا في الحلال و الحرام، لكن لا إشكال أنّه لو كان هذا المجتهد أعلم في نظر المقلّد ممّن يرى الانفتاح يجوز له الرجوع إليه في هذه المسألة الأصوليّة، أعني الانسداد فإنّه من رجوع الجاهل إلى الخبير و الناقد البصير، فهذه إحدى المقدمات، و العلم الإجمالي حاصل للمقلد، فهذه اثنتان، و الاحتياط إمّا مخلّ بالنظام فلا حاجة فيه إلى التقليد أو موجب للعسر فللمقلد فيه طريقان: إمّا التقليد في خصوص هذه المسألة أو الرجوع إلى اتّفاق من يرى الانفتاح و من يرى الانسداد في أنّ الشارع ما وضع التكليف الحرجي على العباد فهذه ثلاث، و الخروج عن الدّين على تقدير إهمال الوقائع و وجوب الرجوع إلى الظن مع تعذّر العلم أيضا واضحان، فهذا تمام

المقدّمات بعضها بالتقليد، و بعضها بالوجدان، لكن ليس نتيجتها إلّا الرجوع إلى ظنون نفسه دون ظنون مجتهده، فلو فرض أنّه يحصل له وثوق من قول المجتهد الميّت أقوى ممّا يحصل من قول الحيّ، فلا وجه لرجوعه إلى قول الحيّ و اتّباعه ظنّه.

إن قلت: إنّه لا شبهة على تقدير انحصار المجتهد في الانسداد الحقيقي الوجداني في حق المقلّد، فإنّ الرجوع إلى الميّت ابتداء قد منع منه الشرع، و تحصيل العلم لنفسه موقوف على مقدّمات لا تتيسّر إلّا بعد مضيّ سنين، و أمّا لو فرض أنّ

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 414

هنا مجتهدا آخر قائلًا بالانفتاح فكيف يفرض في حقّ المقلّد الانسداد مع وجود هذا الطريق العلمي حتى لو فرض كون الآخر القائل بالانسداد مخطئا له و أعلم منه؛ إذ غاية الأمر ثبوت خطأه في هذه المسألة، و لكنّه باق تحت العنوان الذي علّق عليه الحكم في الدليل اللفظي و اللبّي، أمّا الأوّل فلصدق من عرف الأحكام و أهل الذكر على من كان له معرفة نوع المسائل و إن قام الطريق على خطائه في مسألة واحدة أصوليّة، و كذلك الثاني فإنّ الخبرة هو الذي يحكم الفطرة الارتكازيّة باتّباع قوله و لا يسلب هذا العنوان بثبوت الخطأ في مورد واحد، و من هنا يعلم الحال مع المساواة؛ إذ غاية الأمر تساقطهما في هذه المسألة لكنّهما ما خرجا عن كونهما خبرة و كون الرجوع إليهما رجوعا إلى الخبرة.

و يؤيّد ما ذكرنا بل يدلّ عليه أنّ أخبار علاج الخبرين المتعارضين يكون بمقام الترجيح لا تمييز الحجّة عن اللاحجّة، و الترجيح فرع الحجيّة، مع أنّ من المعلوم كون أحدهما خطأ و عدم اجتماعهما في إصابة الواقع، و الحاصل

بعد إحراز عنوان الخبرة لا وقفة في العمل و لو لم يحرز إصابة النظر في خصوص المورد.

قلت: أمّا صورة أعلميّة القائل بالانسداد و تخطئته لمدرك القائل بالانفتاح فهذا نظير ما ذكر في طيّ مقدّمات الانسداد، لأجل عدم وصول النوبة إلى الظن من أنّ الرجوع إلى العالم طريق عقلائي، و مع وجوده لا ينسدّ باب العلم، و جوابه أيضا نظير جوابه و هو ما أفاده شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- في ذلك الباب من أنّ الرجوع إلى الخبرة في كلّ باب و إن كان ارتكازيّا لكن لا في حقّ كل جاهل بل في حقّ من لا تصل يده إلى المدارك و لا حظّ له من العلميّات، و أين هو ممّن هو أيضا أحد نقدة الفنّ و ليس علميّته أقلّ من غيره، فهو يرى غيره الذي يعتمد على

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 415

المدارك التي قد ناقشها هو و وصل نظره إلى فساد جميعها جاهلا مركبا، فكيف يندرج مثله في رجوع الجاهل إلى الخبير فنحن نقول في المقام أيضا: إنّ هذا المقلّد ذو طريق معتبر عقلائي على خطأ نظر هذا الذي يرى الانفتاح و فساد مدركه، و أنّه ما تخيّله مدركا مجرّد تخيل لا واقع له و هو قول الآخر الذي فرض أخبر منه و مخطئا إيّاه، و مجرّد كون الشخص في الأوّل بنفسه مدركا لخطاء المجتهد القائل بالانفتاح و هو هنا جاهل بنفسه لا يوجب الفرق، إذ هذا أيضا مثل سائر المطالب التي يرجع فيها إلى الأخير بحالها من لا خبرة له.

و أمّا صورة المساواة فلا كلام في أنّ الأدلّة الأوّليّة قاصرة عن إثبات الحجيّة عند التعارض، نعم حجيتهما الذاتية بمعنى أنّ كلا منهما

بحيث لو لا الآخر كان حجّة محفوظة، و حينئذ فلو لا دليل ثانوي ناظر بعلاج التعارض كما ورد في الخبرين فالأصل هو التساقط، و إذن فلا إشكال في سقوط قولهما في هذه المسألة.

أمّا قولك: هو لم يخرج في سائر المسائل الفرعية عن كونه خبرة حقّ لكنّه لا ينفع؛ إذ قول الخبرة إنّما هو حجّة لإراءته لإصابة مؤدّاه، و بعبارة أخرى: لو كان مفاد قوله: من عرف إلخ حجيّة قول الأشخاص المخصوصين المعرّفين بهذا العنوان، كنّا ندور مدار صدق هذا العنوان، فنلاحظ أنّ أيّ شخص يصدق عليه أنّه يعرف الحلال و الحرام فنحكم عليه بوجوب اتّباعه، و أيّ شخص لا يصدق هذا العنوان عليه فيخرج عن حكم وجوب الاتّباع، لكن ليس المفاد مجرد المعرّفية، بل مفاد الأدلّة كلا من اللفظيّة و اللبيّة هو اتّباع قول الخبرة من باب أنّ الإنسان بفطرته يقدر بعد إخباره عن الواقع على تطبيق الواقع على مؤدّى خبره، فكلّما لم يحصل له ذلك فلا بدّ من الوقفة و لو فرض كونه خبرة.

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 416

أمّا قولك إنّه إنّما لم يثبت إصابته في هذه المسألة الواحدة الأصولية و هو الانفتاح فيبقى سائر المسائل الفرعيّة بحالها، فممنوع بأنّها و إن كانت مسألة واحدة لكن الخطاء و الصواب فيها يسريان إلى كلّ المسائل الفرعيّة المبتنية على المدارك الظنيّة؛ فإنّه لو لم تكن تلك المدارك معتبرة كما يدّعيه مدّعي الانسداد كانت المتفرّعات خطأ لا محالة، فهذا خطأ ينحلّ إلى الخطاءات. و بالجملة ففي هذه الصورة يصير المقلّد ممّن انسدّ عليه باب العلم وجدانا، كما أنّه في الصورة الأولى كان كذلك بالطريق العلمي.

نعم لو فرض أنّ مدّعى الانسداد و لو كان أعلم

لا يخطّئ مدّعي الانفتاح، فلعلّه عثر على ما لم يعثر عليه لفحصه زائدا على المقدار اللازم أو عثوره عليه اتّفاقا، فلا مانع حينئذ من القول بأنّ المقلّد لم ينسدّ باب العلم عليه، إذ هنا طريق إلى الواقعيّات لم يعلم بخطائه لا إجمالا و لا تفصيلا لا وجدانا و لا بطريق معتبر.

ثمّ في صورة تحقّق الانسداد في حقّ المقلّد إمّا لفرض انحصار المجتهد فيمن يدّعي الانسداد، أو مع تعدّده و لكن مع تخطئته لمن يدّعي الانفتاح و أعلميّته أو المساواة على ما بيّنا، فلا وجه للمنع عن تقليده في مسألة رفع الاحتياط الشديد الموجب للعسر و الحرج كما يظهر من بعض الأساطين في الكفاية، فإن كان الوجه كون المسألة أصوليّة فقد حقّق في محلّه كون المخاطب فيها جميع المكلّفين لا خصوص المجتهدين، مع أنّه- قدّس سرّه- اعترف بعد هذا الكلام بأسطر في جواب إن قلت، بالتقليد في المسألة الأصوليّة و هو الحجيّة و فقد الأمارة المعتبرة فراجع كلامه في خاتمة الكفاية.

ثمّ لا وجه أيضا لما جزم به في فرض جريان تمام المقدّمات في حقّ المقلّد من رجوعه إلى ظنون المجتهد المدّعي للانسداد في قبال عدم رجوعه إلى ظنون نفسه

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 417

فإنّ هذا بالنسبة إلى ظنون يحصلها نفس العامي بنظريّاته القاصرة و أشباهها في الوهن مما لا يعتني به العقلاء حقّ، لا محيص عنه.

و أمّا بالنسبة إلى ظنون فعليّة يحصّلها من قول المجتهد الآخر الميّت، مثل العلّامة و المحقّق ممّن كان في نفسه أوثق من ظنون هذا الحي فمحل نظر بل منع، بعد أنّ قضيّة المقدّمات حجيّة الظنون الفعليّة دون النوعيّة كما قرّر في محله، هذا كلّه على الحكومة.

و أمّا

على تقرير الكشف فيظهر منه- قدّس سرّه- أنّه لو كان قضيّة المقدّمات اختصاص الحجيّة المستكشفة بخصوص الظان فالرجوع في غاية الإشكال، و لو كان قضيّتها عدم الاختصاص كان الظنّ المطلق حاله حال الظن الخاص على فرض الانفتاح في جواز الرجوع.

أقول: فيه أيضا نظر؛ فإنّا و إن قلنا إنّ قضيّتها حجيّة الظن المطلق كالظن الخاص في عدم الاختصاص بخصوص الظانّ بل يعمّه و مقلّده، لكن نقول: حاله مع العامي عينا حاله مع المجتهد الآخر فكما أنّ المجتهد الآخر مكلّف بظنون نفسه، كذلك هذا العامي؛ فإنّه أيضا يقدر من تحصيل الظن من قول من لا يقصر عن هذا المجتهد بل يكون أقوى و أعلم، و بعد حصول الظنّ يكون هو أيضا حجّة شرعيّة و لعلّه أشار بهذا بأمره بالتأمّل.

ثمّ إنّه- قدّس سرّه- في موارد فقد البيان الشرعي من الأمارة المعتبرة الشرعيّة و الأصل المعتبر الشرعي، و انحصار المرجع في استقلال العقل بالبراءة أو الاحتياط حكم بأنّ العامي إنّما يرجع إلى المجتهد في فقد البيان، حيث إنّه من أهل الاطّلاع و هو من غير أهله، و أمّا تعيين حكم العقل فهو يرجع فيه إلى استقلال عقله و إن خالف مذهب مجتهده.

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 418

أقول: إن فرض الكلام فيمن هو متجزّ و له اقتدار الاستنباط في هذه المسألة فهو خروج عن الفرض فإنّه العامي الغير المتمكّن، و إن كان غرضه الفرق بين العقليّات و الشرعيّات و أنّ الأدلّة دالّة في الثانية دون الأولى، ففيه: أنّهما مشتركان في تعيين وظيفة المكلّف في مقام العمل، فنحن و إن لم نقل بثبوت البناء و الارتكاز على اتّباع الخبير في العقليّات فيما إذا ليس لها عمل، بل كانت

مجرّد اعتقاد كما في أصول العقائد، و لكن لا مانع من أن نقول بثبوته فيما كان له عمل و مدخل في تعيين الوظيفة العمليّة كما في المقام.

إن قلت: ما ذكرت في المجتهد الانسدادي من عدم اتّباع ظنّه إنّما يصحّ على الحكومة دون الكشف، توضيح ذلك: أنّ الحكومة و الكشف بعد اشتراكهما في أنّ الظنّ على كليهما يصير منجّزا للواقع على فرض الإصابة يفترقان في أنّه على الأوّل لا يصحّ نسبة المؤدّي إلى الشرع، و على الثاني يصح، و المراد بالمعرفة في المقبولة ليس خصوص العلم الصّفتي بل مطلق ثبوت الطريق إلى الواقع، و لو كان طريقا ناقصا لا يعتني باحتمال خلافه العقلاء، أو ألقاه الشرع تعبّدا.

و الحاصل يصدق على الظانّ على الكشف أنّه عارف بالأحكام، غاية الأمر عرفان في ظرف التحيّر، و انفتاح مبنيّ على الانسداد و لا يصدق ذلك على الحكومة لما عرفت من عدم جواز النسبة، و من هنا يعرف سهولة الأمر في الظنون الخاصّة في فرض الانفتاح و لو على القول بعدم استتباع حجيّتها للحكم و أنّها صرف جعل الحجيّة، وجه السهولة أنّه يصدق كونه عارفا بالأحكام الواقعيّة.

قلت: ما ذكرته من الفرق حقّ و لكنّه غير فارق بعد أنّ حجيّة ظنّه خاصّ به، و ذلك إمّا لعدم تحقّق الشرط و المبنى و هو الانسداد في حقّ المقلّد و على فرض التحقّق في حقّه فعين المقدمات التي صارت منتجة لحجيّة ظنّ المجتهد جارية في

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 419

حقّ المقلّد، و منتجة لحجيّة ظنّه في حقّه، فحالهما حال المجتهدين، و أمّا الفرق بين هذا و بين حال الانفتاح بالنسبة إلى اليقين و الشكّ الحاصلين للمجتهد، حيث نقول بحجيّة رأيه

المرتّب على اليقين و الشكّ المذكورين في حقّ مقلّده مع تمكّنه من تحصيل اليقين و الشكّ من أقوال الميّت فسيجي ء إن شاء اللّه عند التعرّض لذلك في محلّه.

إن قلت: يمكن القول بجواز اتّباع ظن المجتهد الانسدادي في فرض جريان المقدّمات في حقّ المقلّد سواء على الحكومة أم على الكشف، و كذلك بجواز قضاوتهما تمسّكا بالمقبولة، و ذلك عند صدق عنوان «من عرف أحكامنا و نظر في حلالنا و حرامنا و روى حديثنا» الذي جعل موضوعا فيها في حقّه بأن كان معرفته موارد الإجماعات و المتواترات و الضروريّات من الدين أو المذهب مقدارا يعتدّ به بحيث أوجب صدق العنوان المذكور في حقّه و إن انسدّ عليه باب العلم في معظم الفقه.

لا يقال: ينافي ذلك ما في آخر المقبولة من قوله: فإذا حكم بحكمنا حيث صريحه كون المحكوم به حكمهم، و على هذا يصير حكما لهم بواسطة حكمه لا مع قطع النظر عنه.

لأنّا نقول: يكفي في كونه حكمهم أنّه حكم من هو منصوب من قبلهم، و ربّما يؤيد هذا ما في بعض الأخبار من تعليق الحكومة على عنوان من عرف شيئا من قضايانا.

قلت: يمكن دعوى القطع بأنّ ما ذكرته ليس معنى الرواية، أ ترى أن يكون من عرف أحكام الحيض و النفاس و الغسل و الوضوء و الصلاة مفهوما من الرواية كون حكمه في أبواب المواريث و سائر الأبواب التي هو فيها كواحد من العوام

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 420

فصلا و نظره فاصلا حاشاك أن تتفوّه بذلك.

و الحاصل تارة نقول: بأنّ العنوان المذكور جعل مرآة لمن اتصف به و علّق حكم الحكومة على أشخاص المتّصفين و هذا مقطوع عدم إرادته.

و أخرى نقول: إنّ

المراد من عرف الأحكام و صار بمرتبة كان خطاؤه في كل شخص شخص من الموارد بنفسه على حدّ من الموهوميّة كان غير معتنى به لدى العقلاء، أو كان التعبّد الشرعي قائماً على إلغاءه و عدم الاعتناء به فهو محكوم بفاصليّة الحكم. و الحاصل مفادها و مفاد فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ* واحد، فكما يستفاد من الثاني أنّ السؤال عن أهل الذكر لأجل علاج الجهل و كون المسألة المبتلى بها معلوما لدى العالم و للسائل بعد إخباره طريق عقلائي أو شرعي إليه كذلك مفاد المقبولة بلا فرق.

و أمّا ما أيّد به من قوله: من عرف شيئا من قضايانا فلا يحتمل أحد أن يكون المراد أنّه بمحض عرفان قضية واحدة من قضايا أمير المؤمنين- عليه السلام- يجوز له الحكومة في كل القضايا، بل المقصود أنّ من كان له حظّ من قضايانا فختم المرافعة عنده من باب أنّه يختمها بما عنده من قضايانا جائز، و يساوق ذلك في البعد و مقطوعية الخلاف ما ارتكبه من التأويل في قوله فإذا حكم بحكمنا، فإنّ معناه أن يكون المحكوم به إمّا بعينه من أحكامهم كما في الشبهات الحكميّة، و إمّا منطبقا على موازينهم كما في الشبهات الموضوعيّة، فإنّ ملكيّة دار لزيد و زوجيّة امرأة لعمرو و إن كانتا بعينهما ليستا من أحكامهم، و لكنّ هما لا يخلوان من الانطباق إمّا على البيّنة الشرعيّة أو الحلف أو غيرهما من موازينهم، و يكفي ذلك في كونها حكمهم- عليهم السلام- و هذا واضح.

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 421

فصل هل التجزّي في الاجتهاد ممكن أولا؟ و على فرض إمكانه هل تشمله أدلّة اتباع نفسه و اتّباع غيره و أدلّة الحكومة أولا؟

فهنا مقامان:

الأوّل: في إمكانه و هو من البديهيّات فإنّ غاية ما يستند إليه في امتناعه أنّ أبواب الفقه متداخلة فربّ شي ء

يكون مدركا لفرع من باب الصلاة مثلا مذكورا في باب آخر، و هكذا فما دام لم يحصل الإحاطة و القوّة المستنبطة في جميع الأبواب لا يحصل الوثوق بالإحاطة على مدارك مسألة واحدة، و أنّ الملكة أمر وجدانيّ بسيط و ليس مركّبا ذا أجزاء حتى تقبل التجزئة، و كلا الأمرين واضح الفساد.

أمّا الأوّل: فلأنّ أبواب الفقه صارت مبوّبة و اجتمع مدارك كلّ باب فيه، بحيث يحصل الاطمئنان بعدم وجود المدرك لما في باب في باب آخر أجنبيّ، فلا يحتاج الاجتهاد في واحد من الأبواب عليه في سائر الأبواب. و كذلك لا نقول بتركيب الملكة بل بساطتها، و لكنّها ذات مراتب و لها شدّة و ضعف مثل سائر الملكات، و المسائل أيضا مختلفة مدركا، و المدارك سهولة و صعوبة عقليّة و نقليّة، فصاحب الملكة الضعيفة مقتدر على استنباط المسألة السهلة المدرك غير مقتدر على الصعبة، و المقتدر على الصعبة غير مقتدر على الأصعب، و هكذا إلى أن يصل إلى القوّة القويّة المطلقة الموجبة للاقتدار على جميع الأبواب و كلّ الصعاب.

المقام الثاني: أمّا جواز اتّباع نفسه فليس هو إلّا مسألة حجيّة القطع و قد

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 422

حقّق في محلّه عدم حاجته إلى مؤنة و لا إلى شرط فكلّ أحد حصل له القطع بحكم اللّه من أيّ سبب كان، فجواز اتّباعه قطعيّة و عدم جواز عدوله إلى غيره لا يحتاج إلى برهان.

و أمّا جواز تقليد الغير و جواز قضاوته في المسألة التي اجتهد فيها فقضيّة ما مرّ من أنّ المقبولة إنّما اعتبر الرجوع إلى من عرف الأحكام لأجل الوصلة إلى الأحكام جوازهما في حقّه في تلك المسألة و لو كانت مسألة واحدة.

و تفصيل

الكلام في المقامات الثلاثة: أنّه لا شبهة في أنّ دليل اعتبار المدارك لا يختص بأحد، فلو فرض أنّه استظهر من الخبر و استقصى الأمارات المعمولة المتعارفة في هذه الجهة و مشاها صحيحا، و كذلك أعمل الوسع في فهم حجيّة خبر الثقة من المدارك المتعارفة بين أهل الفنّ و فهمها فإن فهم هو تعميم حجيّة السند و الظهور فهو قد انتهى إلى القطع في النتيجة، و إن بقي على الشكّ و الترديد قلّد في هذه الجهة غيره، فإن أفتاه بالتعميم فكذلك يعمل بما استنتجه و لو على خلاف ما استظهره مجتهده، و إن أفتاه بالتخصيص قلّده في المسألة الفرعيّة و إلّا احتاط بالجمع بين ما استظهره نفسه و مجتهده، هذا إن جعلنا المتجزّي عبارة عمّن اجتهد في غير جهة حجيّة المدارك كما يظهر من جعلهم منشأ الخلاف في الجواز و العدم الخلاف في هذه الجهة.

و أمّا لو جعلناه عبارة عمّن فرغ من مدارك المسألة و مدارك المدارك كلا بحيث لم يبق له في جهات تلك المسألة مطلقا تحيّر، فالأمر أوضح، إذ ليس ذلك إلّا من صغريات حجيّة القطع. هذا في حجية المؤدّي في حقّه.

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 423

و أمّا جواز تقليد الغير له فمحصّل الكلام فيه أنّ أقوى الأدلّة كما يأتي إن شاء اللّه في محلّه على التقليد هو الفطرة و الارتكاز الحاصل لكلّ أحد، إذ الدليل اللفظي كالأدلّة الفرعيّة لا حظّ للمقلد فيها، فلا بدّ له من التقليد فيها فيلزم الدور أو التسلسل، و حينئذ فالمقدار الذي يمكن دعوى الجزم قطعا بوجود الارتكاز و الفطرة فيه هو الخبير الماهر من أوّل الفقه إلى آخره.

لا يقال: الخبرويّة في المعاملات كضمّ الحجر بالنسبة

إليها في العبادات، و هو نظير من كان ماهرا في أمراض العين دون السمع.

لأنّا نقول: ليس الأمر كذلك، بل بين المطالب الفقهيّة- حيث إنّ عمدة المدارك هي الأخبار- ارتباط فيحصل للمتوغّل فيها أنس بلسانهم و كيفيّة محاوراتهم- عليهم السلام- لا تحصل تلك الدرجة فيمن لم يحصل له تلك الدرجة من التوغّل.

و بالجملة المعيار في رجوع الجاهل إلى العالم كون احتمال الخطاء بالطّبع مدفوعا و غير مخلّ للاعتناء، و يمكن حصول هذا في العامي بالنسبة إلى المجتهد المطلق، و أمّا المتجزّي فربّما أمكن الدغدغة فيه من هذه الجهة و لو على نحو الاحتمال بأن كان في المطلق احتمال الانس و الاطلاع الزائد على المتجزّي و بهذا يخرج عن التساوي مع المطلق.

نعم لا شبهة في صورة الانحصار، كما أنّه لا شبهة في إمكان صيرورة المتجزّي أقوى في النفس و أوثق من المطلق اتّفاقا، كما لو صرف مدّة متمادية من عمره في مسألة واحدة، و تتبّع مداركها و تفحّص في مظانّها و غير مظانّها بحيث صار النسبة بينه و بين المطلق هي النسبة بين ذي فن و ذي فنون فيمكن كونه أخبر في هذه

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 424

المسألة فضلا عن المساواة، لكنّ الكلام في الجواز على سبيل الإطلاق حتّى في صورة عدم إحراز هذه الجهات كما في العامي الخالي الذهن الذي ورد على هذين المجتهدين فيمكن التشكيك في مشموليّته للارتكاز.

و أمّا الأدلّة اللفظيّة فيمكن الخدشة في إطلاقها أيضا لمثل الفرض؛ إذ هي كما يأتي إن شاء اللّه تعالى في محلّه عبارة أخرى عن السيرة العقلائيّة و ليست بمقام إعمال تعبّد شرعي، فمدلولها أن يصير عرفان الشخص في عامّة المسائل بحيث صار احتمال الخطاء

في كلّ شخص شخص مدفوعا بالطبع و الجبلّة.

و بعبارة أخرى: عرفان الأحكام علّة تعليليّة لا تقييديّة فيمكن التمسّك به في المشكوك كما في «كل الرمّان لأنّه حامض» و ليس مثل «كل الرمّان الحامض» حتّى يتوقّف في الشخص المشكوك فيه، و لهذا قلنا لا يكفي معرفة مسائل باب لباب آخر؛ فإنّه لا تفي معرفة ذلك الباب بدفع احتمال خطائه في شخص المسألة من الباب الآخر. فنقول: يمكن إجراء مثله في المتجزّي، فليست معرفته بحيث تدفع في طبع العقلاء و فطرتهم احتمال الخطاء في هذه المسألة الشخصيّة. هذا في مقام التقليد.

و أمّا فصل الخصومة فالحقّ كما يأتي إن شاء اللّه تعالى أنّ المستفاد من أدلّته أيضا تقرير البناء المذكور من رجوع الجاهل إلى العالم لاندفاع خطائه بحسب فطرة الراجع و طبعه، و لعلّ نظر من جعل الأمر في هذا المقام أشكل من المقام السابق أنّه جعل مفاد الأدلّة تأسيسا مع عدم وجود الفطرة في باب فصل الخصومة كما كان في باب التقليد، فيمكن القول بشمول الارتكاز في ذلك الباب و لا يمكن القول بشمول من عرف إلخ في هذا الباب فتدبّر.

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 425

فصل في التخطئة و التصويب

اختلف أصحابنا الإماميّة- رضوان اللّه عليهم- مع العامّة- بعد اتّفاق الفريقين على التخطئة في العقليّات- في الشرعيات، فذهب أصحابنا إلى التخطئة و العامّة إلى التصويب.

و محصّل الكلام في المقام أنّ قسما من التصويب محال و هو كون العلم بالحكم محدثا له؛ فإنّ هذا في نظر العالم يوجب استحالة حصول العلم له، نعم في نظر آخر ممكن بأن يرى الآخر أنّ علم هذا الشخص مولد للحكم فلا محلّ للتكلّم في هذا القسم.

و هنا قسم آخر لا شبهة في إمكانه

و هو أنّ الشارع لم يجعل الحكم الواقعي في الأزل إلّا لمن يراه في علمه أنّه سيعلم فاختص خطابه به دون من يراه جاهلا إلى الأبد، فهذا في نظر شخص العالم أيضا ممكن، لأنّه يحتمل من الابتداء أنّه مصداق الموضوع فيصير بصدد تحصيله، و ليس علمه أيضا محدثا، بل حال علمه حال العلل الغائيّة حيث إنّ تصوّرها المتقدّم مؤثّر و وجودها المتأخّر معلول، فهنا أيضا تصوّر الحاكم أنّ فلانا سيعلم أورث جعله الحكم في حقّه أزلا، فإذا علم هو يكشف عن كونه مصداقا للموضوع؛ فهو نظير تخصيص المولى الظاهري خطابه

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 426

فيما بين عبديه- اللذين أحدهما سميع و الآخر أصمّ- بالسميع، فالخطاب قبل سماعه موجود لكن بلحاظ أنّه سيوجد، لكن قام إجماع الإماميّة و أخبارهم على نفي هذا، و أنّ حكم اللّه يشترك فيه العالم و الجاهل. هذا في العلم.

و هل يمكن تصوير ذلك في الظن أيضا بأن يكون جعل الحكم مختصّا بمن يرى الشارع أنّه سيظن به، و لا شبهة في إمكانه في نظر غير الظان كما عرفته في العلم، لكن في نظر نفس الظان هل يمكن أو لا؟ التحقيق إمكانه و غايته أنّه ينقلب الظن علما، و ليعلم أنّ المراد أن يصير الظن بالحكم مورّثا بوجوده العلمي لجعل نفس هذا الحكم لا لحكم آخر مثله، فإنّه في غاية الإمكان، كما أنّه لا فائدة في أن يصير الظن الموصل بالواقع كذلك، فإنّ الظانّ لا ينسدّ عليه احتمال خطائه فغايته ظنّه الإصابة، فلا يفيد في حقّه إلّا الظن بالنتيجة، فما نحن فيه أن يكون الظن بحكم الوجوب صرفا من دون قيد كونه مطابقا للواقع محدثا له بوجوده اللحاظي

كالعلّة الغائيّة، و هذا أيضا لا شبهة في إمكانه؛ فإنّ الشي ء يمكن أن يكون بحدوثه مزيلا و رافعا لبقاء نفسه، فهذا الظن بحدوثه يقلّب نفسه علما و هذا لا غبار في إمكانه.

و هنا قسم ثالث نسبه شيخنا المرتضى في جواب ابن قبة إلى شيخ الطائفة في العدّة، و هو أن يكون الأوصاف الطارئة على الحكم من المشكوكيّة و المظنونيّة كسائر العناوين موجبا لانقلاب المصلحة الواقعيّة، فحال الحكم الواقعي كحليّة الغنم من الأحكام الحيثيّة، فالحكم الواقعي فعلي في حقّ غير العالم بخلافه، شأني في حقّه، فلا يتوقّف الفعليّة على العلم حتّى يلزم الدور السابق، بل على عدم العلم بالخلاف، فالعلم بالخلاف رافع لا أنّ العلم بالوفاق محدث، هذا في فعليّة الحكم الواقعي.

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 427

و أمّا فعليّة الحكم الثانوي فليس متولّدا من العلم بنفسه بل العلم بالواقعي أو الظنّ به على نحو الجهل المركّب محدث للحكم الآخر الثانوي و هو في غاية من الإمكان، و هو الظاهر من قولهم ظنيّة الطريق لا ينافي قطعيّة الحكم، و هو المراد من قول العدّة و النهاية: «و كوننا ظانّين بصدق الراوي صفة من صفاتنا فدخلت في جملة أحوالنا التي يجوز كون الفعل عندها مصلحة» و هذا أيضا يستظهر من بعض الكلمات، الإجماع على بطلانه و إن كان مع ذهاب مثل شيخ الطائفة يبعد ذلك و على كلّ حال فقد حقّق في محلّه كون مفاد أدلّة الاعتبار هو الطريقيّة.

فصل لو تبدّل رأي المجتهد إلى رأي آخر أو زال

فالقسم الأوّل لا يخلو إمّا يكون من القطع إلى القطع، أو من القطع إلى الظنّ المعتبر بحسب الاجتهاد الثاني، أو من الظنّ المعتبر بحسب الأوّل إلى القطع، أو من الظنّ المعتبر بحسب الأوّل إلى الظنّ كذلك

بحسب الثاني، و على كلّ تقدير من هذه الأربعة إمّا يخطئ الاجتهاد الأوّل بحسب الثاني، و إمّا لا يخطئه.

مثال الأوّل ما إذا عيّن المدلول العرفي للفظ الآية أو الرواية في شي ء ثمّ عيّنه في خلافه، حيث إنّ المدلول العرفي له واقع محفوظ لا يتبدل بالعلم و الجهل و يقبل الصواب و الخطاء، و مثال الثاني ما إذا فحص بالمقدار اللازم عن الدليل فيئس فصار مرجعه الأصل ثمّ على خلاف العادة عثر على الدليل فخرج عن موضوعيّة الأصل، أو فحص عن معارض الدليل كذلك فيئس فصار موضوعا لدليل الحجيّة ثمّ بخلاف العادة عثر على المعارض فخرج عن موضوعيّة الأوّل؛ فإنّ

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 428

موضوع الأصل فاقد الطريق و موضوع حجيّة الظن المعتبر فاقد القطع و الطريق الأقوى أو المساوي، و هو كان حقيقة كذلك فكان وظيفته الواقعيّة هو العمل على الأصل في الأوّل، و الطريق المذكور في الثاني فبابه باب تبدّل الموضوع، و كصيرورة المسافر حاضرا، و أمّا الأوّل فكان صرف تخيّل الوظيفة و لا وظيفة؛ لعدم إناطة الوظيفة الواقعيّة المطابقة للمدلول العرفي مثلا بالعلم و الجهل.

فالحقّ في جميع الصور المذكورة عدم الإجزاء، أمّا في صورة كان الحاصل أوّلا هو القطع بالحكم الواقعي الأوّلي ثمّ اضمحلّ فلا ينبغي الارتياب؛ إذ غايته المعذوريّة العقليّة و لم يكن حكم شرعي باتّباع القطع كما حقّق في محلّه فلا محلّ هنا لتوهّم الإجزاء، إذا المأمور به الواقعي الذي لم يفت محلّ أدائه أو قضائه بالفرض قد انكشف و لم يمتثل بعد، و العذر و هو جهله المركّب أيضا زال و لم يكن في البين حكم حتّى يتكلّم في بدليّته أو مفوّتيته بالنسبة إلى الواقع، فلا

محيص عن الخروج عن عهدته، كما أنّه لا كلام في صورة الظن مع تبيّن الخطاء في الاجتهاد؛ فإنّ الكلام فيه أيضا عين ما تقدّم.

و إنّما الكلام كلّه في صورة حصول الظن المعتبر أو الأصل المعتبر الشرعي أوّلا ثمّ حصل القطع أو الظن المعتبر الأقوى بخلافه، فهل الحكم الظاهري الشرعي يجزي موافقته و يوجب سقوط الإعادة و القضاء عند انكشاف الخطاء سواء بالقطع أم بالظن، أو لا يجزي مطلقا أو يجزي مع الظن و لا يجزي مع القطع، الحق هو الوسط و ذهب بعض سادة الأساطين ممّن عاصرناهم إلى الأخير و أفتى به في رسالة العروة الوثقى في مسائل التقليد.

فنقول: لو فرض الفراغ عن سببيّة الأحكام الظاهريّة بمعنى إحداثها

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 429

مصالح في متعلّقاتها تضمحلّ في جنبها المصالح الواقعيّة و فرض الفراغ أيضا عن أنّ هذه المصلحة الحادثة من سنخ تلك المصلحة الواقعيّة الفائتة و وافية بواجب الاستيفاء من درجتها تعيّن الاجزاء، لأنّ المأمور به و إن لم يؤت به و لكن يكفي في الخروج عن عهدة اشتغاله عقلا الإتيان بما يفي بمصلحته و يكفي بغرضه.

و كذلك لو فرض الفراغ بناء على طريقيّة تلك الأحكام بمعنى عدم إحداثها المصلحة في المتعلّقات، و المصالح و المفاسد باقية على ما هي عليها، و إنّما فائدتها صرف المرآتيّة و الكاشفيّة عن كون الإتيان بمتعلّقاتها مفوّتا للحمل عن قابليّة إدراك المصالح الواقعيّة نظير المريض المستعدّ لشرب الفلوس إذا شرب شيئا لا فائدة فيه بمرضه أصلا، مع إسقاطه إيّاه عن استعداد شرب الفلوس، و وجه الإجزاء في هذه الصورة أيضا واضح، و أمّا في صورة الفراغ عن عدم كونها بأحد من هذين النحوين فلا كلام

أيضا في صورة الفراغ عن السببيّة مع إحراز عدم الوفاء بالواجب الاستيفاء و عدم التفويت، إنّما الكلام في صورتين، صورة الفراغ عن الطريقيّة و الفراغ عن عدم تفويت المحلّ، و صورة الفراغ منها مع الشكّ في التفويت أو الشكّ في الطريقيّة و السببيّة أو الفراغ من السببيّة و الشك في الوفاء بالمقدار اللازم الاستيفاء أو التفويت و عدمهما.

و محصّل الكلام في الصورة الأولى أنّه حسب الفرض قد التفت و وقت الأداء أو القضاء باق إلى المأمور به الواقعي و لم يمتثله بعدم و لم يأت بشي ء يفي بمصلحته أو بفوت المحلّ عن قابليّة استدراكها حسب الفرض، نعم و أفق الحكم الطريقي الشرعيّ و غايته إسقاطه ذاك الحكم الطريقي و عذريته عن مخالفة الواقع أيضا ما دام شاكّا، و أمّا إذا ارتفع الشكّ فقد ارتفع الحكم بارتفاع موضوعه، و لا يعقل

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 430

بقاء المعذوريّة التي هي أثر ذاك الحكم الزائل، و حينئذ فلا بدّ عن الامتثال، و المقدار الذي يحكم به العقل من تدارك الشارع ما فات من مصلحة الواقع لو قلنا به هو غير هذه الصورة و ما إذا لم يستند التفويت إلى اختيار المكلّف، و لا فرق فيما ذكرنا بين تبيّن خطأ الظنّ الأوّل بالقطع أو بظن معتبر آخر، و القول في الثاني بأنّهما ظنّان في شمول دليل الحجيّة على حدّ سواء فترجيح الثاني على الأوّل بلا مرجّح، فيه: أنّه من قبيل معارضة الحجّة مع اللاحجّة، فإنّ الظن الأوّل قد زال موضوع الحجيّة فيه بواسطة مجي ء الغاية، فإنّ غايته الأعمّ من القطع و ما هو بمنزلته.

مثلا لو حصل الظنّ الأوّل من عموم، ثمّ على خلاف العادة اتّفق

عثوره على مخصّصة، فهذا أيضا و إن كان ظنّا آخر لكنّه مذهب لموضوع حجيّة الأوّل فلا تعقل المعارضة مع هذا، و كذلك لو حصل ظنّ اطمئناني مثلا بمدلول كلام مثلا ثمّ تبدّل بظنّ اطمئناني آخر، فإنّ الحجة و هو الاطمئنان قد كان و زال، لا أنّه الآن موجود حتّى يعارض مع الآخر الموجود، و هذا بعينه مثل القطعين حيث لا يمكن القول بأنّهما في الحجيّة العقليّة على حدّ سواء مع زوال الأوّل في حال الثاني.

و محصّل الكلام في الصورة الثانية و هي صورة الشكّ في التفويت و عدمه بناء على الطريقية أو السببيّة، أو الشكّ في الوفاء بناء على السببيّة، أو الترديد بين الطريقية و السببيّة و كلّها مشترك في أنّ المكلّف عالم بمقتضى القطع أو الطريق المعتبر بتوجّه تكليف من المولى عليه في أوّل الوقت و لم يأت بما هو فرده الواقعي و إنّما يشكّ في بقائه في هذا الحال الذي هو حال علمه، لاحتماله سقوطه بمجي ء

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 431

ما به يتدارك و ينجبر غرضه، أو بمجي ء ما يفوت المحلّ عن قابليّة درك الغرض، و الحاصل قطع المكلّف بالاشتغال في زمان و الاشتغال اليقيني في زمان آخر فهل لا بدّ في حكم العقل بالفراغ اليقيني القطع بالاشتغال اليقيني في زمان واحد، يعني يجتمع القطع مع الاشتغال في زمان واحد، كما لو قطع في أوّل الظهر بتوجّه «صلّ» ثمّ مضى شطر من الوقت ثمّ شكّ في الإتيان بالصلاة و عدمه، أو يكفي في الحكم المذكور القطع بالاشتغال في زمان ما و لو انفكّ زمان علم الاشتغال فيه عن زمان حصل العلم فيه؟ و بعبارة أخرى: ليس في البين تكليف

فعليّ مقطوع في شي ء من الأزمنة، كما لو غفل من أوّل الظهر إلى أن مضى شطر من الوقت فالتفت بتوجّه التكليف إليه من أوّل الظّهر، لكن احتمل أنّه التفت في أثناء ذلك الشطر الماضي و أتى بالصّلاة، و احتمل دوام غفلته، فهو غير عالم بتوجّه التكليف الفعلي في شي ء من الأزمنة، أمّا أوّل الظهر فإنّه كان غافلا، و أمّا الحال الفعلي فإنّه يحتمل السقوط بالإتيان، فأوّل الظهر الذي اشتغاله معلوم ليس ظرفا للعلم و الحال الفعلي الذي هو ظرف العلم ليس الاشتغال فيه معلوما.

و ما نحن فيه من هذا القبيل؛ فإنّه بعد موافقة الحكم الظاهري يعلم بتوجّه الخطاب الواقعي إليه من أوّل الوقت، و لكنّه الحال شاكّ في اشتغال ذمّته به لأحد الاحتمالين، فالزمان الأوّل ظرف الاشتغال المعلوم و لم يكن التكليف فيه فعليّا لوجود العذر، و الزمان الثاني قد ارتفع العذر، و لكن التكليف الفعلي غير معلوم.

ثمّ الحاكم في المقام بين الوجهين المذكورين هو الوجدان، و نحن إذا راجعناه في الأمثلة العرفيّة نراه قاطعاً بالثاني، أعني الحكم بوجوب الفراغ، ألا ترى أنّه لو علم العبد أنّ المولى في أوّل الزوال ابتلى بوجع البطن و نادى هذا العبد باسمه

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 432

و أمره بشراء الدواء من السوق فلم يسمع نداءه و لكنه الحال يحتمل تسكين الوجع أو شراء غيره لذلك الدواء، فهل ترى أنّ العقل يرخّصه في العقود و ترك الفحص، أو يوجب عليه المبادرة و يحكم في حقّه بابتلاء الرقبة؟ لا ينبغي الارتياب في حكمه بالثاني، و من هنا لا يفرّق في باب العلم الإجمالي بين طروّ الخروج عن محلّ الابتلاء في أحد الطرفين بعد العلم، أو سبقه

على العلم في أنّ الحكم فيهما معا هو الاشتغال، و لزوم الاجتناب عن الطرف المبتلى به.

أمّا في الأوّل فواضح، و أمّا في الثاني فلمشاركته مع المقام في أنّه فارغ عن الجهات الراجعة إلى تكليف المولى، و إنّما الشك في فعليّة الخطاب و حكم العقل في مثله الاشتغال و بابه باب الشك في القدرة، فمتى علم بمطلوب مطلق للمولى و شكّ في أنّ هذه الحركة منه وافية بذلك المطلوب المطلق أولا، فليس له التقاعد بل يجب عليه الإقدام، كما أنّ الشاكّ في القدرة أيضا شاكّ في فعليّة التكليف و بصرف ذلك لا يجوّز له التقاعد، بل يوجب عليه إعمال الوسع حتّى يتيقّن بالعجز.

و من هنا يظهر الخدشة في إطلاق تفصيلهم في باب العلم الإجمالي بين الاضطرار الطاري إلى واحد معيّن من الطرفين، و الاضطرار السابق على العلم بالاشتغال في الأوّل و البراءة في الثاني، فإطلاقهم البراءة في الثاني، يشمل ما إذا علم بتماميّة جهات التكليف من قبل القيود الشرعية في زمان سابق على زمان طروّ الاضطرار و كان حدوث العلم بعد الزمان الثاني.

مثاله ما إذا حدثت النجاسة في أحد الإنائين في الساعة الأولى من النهار، ثمّ حدث الاضطرار إلى معيّن منهما في الساعة الثانية، ثمّ حصل العلم مع بقاء الاضطرار المذكور بالنجاسة المذكورة في الساعة الثالثة، فإنّ مقتضى ما ذكرناه هو

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 433

الاشتغال في هذه الصورة، فإنّه علم بتوجّه الخطاب إليه في الساعة الأولى و يشكّ في أنّ الاضطرار الطارئ في الساعة الثانية هل طرأ على مورد ذلك التكليف حتّى أبطله أو لم يطرأ حتى يكون باقيا، فيصير من مصاديق ما ذكرنا.

فما ذكروه في الاضطرار السابق إنّما يتمّ في

صورة لم يعلم في الزمان الثاني تماميّة جهات التكليف قبل طروّ الاضطرار في الزمان الأوّل؛ فإنّه غير مشارك مع صورة الخروج عن محلّ الابتلاء في واحد معيّن قبل حصول العلم لأنّ قيد الاضطرار شرعي لقوله إِلّٰا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ و «ما اضطرّوا إليه» و «ما من شي ء إلّا و قد أحلّه اللّه عند الضرورة»، و الخروج عن محلّ الابتلاء قيد عقلي و وجه فارقيتهما مذكور في باب العلم الإجمالي و قد تلخّص أنّ القاعدة الأوّليّة في الأحكام الظاهريّة هو عدم الإجزاء مطلقا و يمكن أن يختار في المقام تفصيل، و هو أنّ لنا في الشرعيات بحسب التصوّر ثلاثة أقسام:

الأوّل: الأحكام التابعة للجعل و الإنشاء وجودا و عدما: و الثاني: الأمور الواقعيّة التي كشف عنها الشرع كالنجاسة و الطهارة. و الثالث: ما هو إمضاء طريقة العرف.

ففي القسمين الأوّلين لا إشكال في عدم الإجزاء لأنّه يتبيّن بالأمارة الثانية أنّ حكم اللّه في الزمان الأوّل كان كذا أو أنّ الشي ء الفلاني كان نجسا، و قد كان خفي الواقع علينا في المقامين فلا بدّ من الخروج عمّا هو مقتضاه كما تقدّم تفصيله، و أمّا الثالث، أعني: إمضائه لمثل أسباب الملكيّة و الزوجيّة و الطلاق و الحريّة و الانعتاق فإن بنينا على أنّ هذه الأسباب من البيع و الصلح و النكاح و غير ذلك أمور نفس أمريّة لا نقصان في تأثيرها و سببيّتها واقعا، و إنّما الشرع كشف القناع

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 434

عن الواقع فالحال كما تقدّم بلا فرق؛ إذ يتبيّن أنّ ما توهّمناه بيعا غير بيع واقعا.

و أمّا إن بنينا على أنّ هذه الأمور في نفسها غير تامّة في السببيّة و إمضاء الشرع يحتاج

إليه لتتميم السبب، كإجازة المالك في بيع الفضولي- حيث إنّ البيع سبب ناقص و الإجازة متمّمة له- فلا محيص حينئذ عن القول بالإجزاء، وجه ذلك أنّ المفروض أنّ حقيقة الإمضاء محقّق للملكيّة مثلا، فإذا حصل و تحقّق واقعا في زمان يكفي في حصول الملك في جميع الأزمان إلى أن يحصل الناقل، و المفروض أيضا أنّ الحكم الظاهري المجعول في ظرف الشكّ لم يتبيّن خطاؤه بحيث لو كان هناك أثر للأعمّ من الظاهري و الواقعي وجب ترتيبه.

فنقول: المقام من هذا القبيل، توضيحه: أنّ الحكم الظاهري و إن كان طريقيّا صرفا و معناه على هذا المبنى أنّه عامل مع المؤدّى معاملة الإمضاء الواقعي و لكن نفس هذا الأمر و هذا الحكم حقيقي و واقعي و الإذن و الإمضاء حاصل من هذا الأمر الحقيقي، و بعبارة أخرى تنزيل المؤدّى يوجب كون المؤدى تنزيليّا، و أمّا نفس التنزيل فليس بتنزيليّ بل واقعيّ.

فإن قلت: البيع الذي كان ممضى بملاحظة الشكّ قد ظهر كونه مردودا بملاحظة الذات، و كيف يؤثّر الإمضاء المقرون بالردّ؟

قلت: لم يظهر بالأمارة الثانية إلّا أنّ العقد بالفارسيّة مثلا فاسد، و ليس الفساد أمرا وجوديا و إنّما ينتزع من عدم جعل الصحّة، فالحاصل من الأمارة أنّ ما هو في حدّ الذات مجعول يعني مقرون بإمضاء الشارع مع قطع النظر عن الشكّ و العلم هو العقد بالعربيّة فقط، و أنّ الفارسيّة ليست كذلك لا أنّه مردود، فلا ينافي كونه بملاحظة الشك ممضى، فيكون لنا قسمان حقيقيّان من البيع المؤثر أحدهما ما

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 435

هو مؤثر ذاتا و الآخر عرضا.

فإن قلت: هذا نظير ما إذا قال المالك: إذا رضي زيد ببيع مالي فأنا أيضا

راض فاشتبهنا شخص زيد بشخص آخر، فهل يكفي رضاه و ترتّب الأثر بعد انكشاف خطأ التطبيق؟ ففي مقامنا أيضا تخيّلنا أنّ الشارع أمضى و قد تبيّن أنّه ما كان أمضى.

قلت: ما ذكرته خارج عن فرض الكلام؛ فإنّا نتكلّم في فرض عدم تبيّن خطأ الاجتهاد و إنّما كان محض الخروج عن موضوع عدم الطريق إلى وجدانه، أو عن موضوع عدم المخصّص و المقيّد و القرينة في مظانّها إلى موضوع وجدانها كما بيّنا ذلك سابقا، و مع هذا لم ينكشف أنّ الإمضاء كان خياليّا صرفا، بل كان في موضوعه حقيقيّا، و المفروض أنّ الإمضاء في زمان يكفي في حصول الملكيّة و الزوجيّة و غيرهما في تمام الأزمان نظير الوضوء لذي الجبيرة بعد خروجه عن الموضوع فلا يحكم عليه بتجديد طهارته؛ لأنّ السبب في موضوعه الواقعي قد أثّر أثره و هو الطهارة و إذا حصلت الطهارة فلا يحتاج في البقاء إلى مبق بل بطبعها باقية إلى أن يجي ء المزيل.

و القول بأنّ السبب قد أثّر في الطهارة أو الملكيّة الماداميّة لا محصّل له بعد أنّ الزمان لم يؤخذ قيدا في المعلول، فالنار شأنها الإحراق و الزمان الخاص ظرف تأثيرها، لا أنّ أثرها الإحراق الخاص بخصوصيّة الزمان الكذائي، و هكذا المقام فإنّ طبيعة الإمضاء متى تحقّقت تحقّق حقيقة الملكيّة بلا تقييد بزمان و إن كان لا ينفكّ عنه، و إذا حصلت الملكيّة يحتاج زوالها إلى مزيل، و بالجملة على فرض الفراغ عن استظهار ما ذكر من كون الإمضاء تتميما للسبب لا تصديقا للعرف في

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 436

فهم السببيّة لا إشكال فيما ذكر.

و هنا تفصيل آخر ذهب إليه صاحب الكفاية و هو الفرق بين الأصول

الجارية لتنقيح موضوع التكليف شطرا أو شرطا و بين الطرق كذلك، توضيح المقام: أنّ تقييد الحكم بالعلم بنفسه دور كما تقدّم، فلا يمكن تقييد حرمة اللحم مثلا بالعلم بالحرمة، كما أنّ تقييده بالعلم بموضوعه كتقييد الحرمة بالخمر المعلوم الخمريّة لا مانع منه و لذا لم نستبعده في محلّه جمعا بين الأدلّة الواقعيّة و الدالّة على رفع ما لا يعلمون.

و أمّا لو كان للحكم حكم و أثر فبالنسبة إلى هذه الآثار يمكن دخل العلم بالحكم و لا يلزم دور، فالدليل الدال على أنّ الحيوان المشكوك حلال لحمه بالنسبة إلى الحرمة الواقعيّة المرتّبة على اللحم لا يوجب تقييدا و لا تصير الحرمة الواقعيّة مقيّدة بحال العلم بنفسها، و أمّا بالنسبة إلى أثرها و هو مانعيّة وبره و سائر أجزائه للصلاة فيمكن تقييده لدليل هذا الأثر، فيكون ما دلّ على أنّه يبطل الصلاة في وبر ما لا يحلّ لحمه مخصوصا بما يعلم كونه لا يحلّ لحمه، و أمّا ما لا يحلّ لحمه الذي يشك في حرمة لحمه فهو غير مانع واقعا و إن كان حراما واقعا أيضا.

و حينئذ فنقول بحسب مقام التصوّر: إنّه قد يكون الدليل المرتّب لهذه الآثار مرتّبا لها على الأعم من الحرام الواقعي و الحرام الظاهري فحينئذ يتحقّق المصداق حقيقة للموضوع و لو ثبتت الحليّة الظاهريّة بلسان الطريق لا الأصل، و قد يكون مرتّبا لها على خصوص الحرام الواقعي فحينئذ لسان الأصل و الطريق يفترقان؛ فإنّ الطريق المثبت للحليّة لسانه أنّ هذا هو ذاك الحلال الواقعي الذي ليس وبره مانعا فما دام هذا اللسان موجودا يكون العبد معذورا، و إذا ارتفع كذبه و أنّ ما

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 437

حكم بحليّته

واقعا كان حراما واقعا فلا بدّ من ترتيب أثر الواقع.

و بعبارة أخرى: و إن كان مفاد دليل الحجيّة تنزيل ما أدّى إليه الطريق و أراه واقعا بمنزلة الواقع لكنّه أيضا لرؤية عينيّته مع الواقع و عدم الاعتناء باحتمال التخلّف فلا تنزيل في تقدير التخلّف الذي قد وضح.

و أمّا الأصل فحيث إنّه حكم في موضوع المشكوك فقد وقع كلا تقديري الإصابة و التخلّف- اللذين هما متساويان احتمالا؛ لأنّ ذلك مقتضى المشكوكيّة- تحت الحكم و يشمل التنزيل كلا الحالتين، غاية الأمر حيث إنّه ليس لمصلحة في المتعلّق يصير متّحدا مع التكليف الواقعي عند الإصابة و منجّزا له كالتكليف الطريقي و مستقلا ناشئا عن المصلحة في الجعل عند عدمها.

توضيح المقام يقتضي بسط الكلام. فنقول: دليل الواقع و دليل الشكّ قد يكونان على وجه العرضيّة و تقييد أحدهما للآخر، غاية الأمر إنّ الدليل الثاني ناظر إلى مدلول الدليل الأوّل بالتوسعة أو بالتضييق يعني أنّ لسانه أوّلا هو التنزيل و جعل ما ليس بموضوع موضوعا أو العكس، لكنّه في اللبّ يرجع إلى التخصيص أو التعميم لدائرة الواقعي، و هذا كما هو الحال في أكرم العلماء و لا تكرم الجهّال، ثمّ ورد في حقّ زيد الجاهل أنّه عالم، يعني تنزيلا فإنّ الثاني حاكم على الأوّلين؛ و لسانه جعل ما ليس بموضوع لحكم أكرم موضوعا و بالعكس في لا تكرم، و يكون في اللبّ تخصيصا لحكم لا تكرم و تعميما لحكم أكرم، و هذا المعنى في الشبهات الحكميّة بالنسبة إلى نفس المشكوك محال؛ لاستلزامه كون الحكم الواقعي متوقّفا على العلم به.

فإذا ورد واقعا شرب التتن حرام و ورد أيضا مشكوك الحرمة حلال فهذا

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 438

لا

يمكن كونه تقييدا لذاك الدليل، إذ يلزم أن تكون الحرمة الواقعيّة مقيّدة بالعلم بنفسها، و هو إمّا محال لو كان المتوقّف عليه هو العلم، و إمّا تصويب مجمع على بطلانه لو كان هو عدم الشكّ و التجرد عنه.

و لكن هذا المعين بالنسبة إلى الشبهات الموضوعيّة للأحكام الكليّة في غاية الإمكان كما ورد شرب الخمر حرام، ثمّ ورد أنّ ما شك فيه أنّه خمر حلال فيصير هذا تقييدا للدليل الأوّل بالخمر المعلوم خمريّتها.

و كذلك هذا المعنى في غاية الإمكان في الشبهات الحكميّة بالنسبة إلى آثار الحكم المشكوك لا نفسه كما إذا ورد واقعا: الأرنب حرام لحمه، و ورد أيضا: كلّ ما هو حرام لحمه لا يجوز الصلاة في وبره و شعره و صوفه و كل شي ء منه، ثم ورد:

مشكوك الحرمة حلال، فهذا الثالث و إن كان لا يمكن كونه تقييدا للأوّل كما ذكرنا و لكن حاله مع الثاني بعينه حال ما ورد في الخمر المشكوك الخمريّة بأنّه حلال مع دليل أنّ الخمر حرام فيقال: أثر عدم جواز الصلاة مخصوص بمحرّم اللحم المعلوم محرميّة لحمه، فمحرّم اللحم الواقعي الذي يشكّ في حرمة لحمه، الصلاة في وبره و سائر أجزائه جائز واقعا و لبّا، هذا كلّه على تقدير عرضيّة الحكم المتعلّق بالواقع مع المتعلّق بالشكّ.

و قد يكونان طوليّين و الثاني لا يصادم الآخر لكونه ناظرا بمرتبة الشكّ في الواقع من دون تعرّض له في الواقع، بل يكون مجرّد بيان وظيفة لحال الشك لأن لا يبقى متحيّرا في العمل فالواقع على ما هو عليه باق من دون تغيير و تبديل فيه أصلا، و هذا المعنى هو المتعيّن في الشبهات الحكميّة بالنسبة إلى نفس الحكم المشكوك حيث قلنا إنّ العرضيّة

فيها غير ممكن أو غير واقع.

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 439

و أمّا الموضوعيّة فإن لوحظ الشك فيها في الموضوع البحت فلا تعقل الطوليّة؛ إذ هي إنّما نشأت من جعل الشكّ متعلّقا في الحكم الأوّلي؛ ضرورة أنّ الشكّ في الشي ء متأخّر عنه، فإذا جعل متعلّقا بموضوعه فهما عرضيان نظير سائر الأحكام المتعلّقة بالموضوع باعتبار سائر الطوارئ و الحالات العارضة على نفس الموضوع و إن لوحظ الشكّ فيها من حيث الحكم كان الحال فيها هو الحال في الشبهة الحكميّة، فإنّ تقييد الحكم بحال عدم الشك فيه أو العلم به مطلقا باطل.

و أمّا الشبهات الحكمية بالنسبة إلى آثار الحكم المشكوك فيمكن فيها هذا الوجه كالوجه الأوّل أيضا؛ إذ كما أنّه من حيث نفس الحكم ليس للدليل الثاني تعرّض للدليل الأوّلي إثباتا و نفيا، فكذلك يمكن هذا النظر بالنسبة إلى دليل ترتيب الأثر فبحسب الواقع الأرنب مثلا كان حراما و كان عدم جواز الصلاة أيضا أثر الحرام اللحم الواقعي و لكن عند الشك ورد التعبّد بالمعاملة معه معاملة الحلال الواقعي، من حيث جواز الأكل و من حيث جواز الصلاة معا فاللبّ في كلا المقامين على ما هو عليه محفوظ.

ثمّ هذا كلّه في ما إذا كان الحكم الثانوي أصليّا يعني مدلول أصل تعبّدي شرعيّ، مثل قاعدة الطهارة و قاعدة الحليّة، و أمّا إذا كان طريقيا مدلول طريق أو أمارة شرعيّين فلا يتصوّر فيه غير الطّوليّة، و الفرق بينهما أنّ الحكم الأصلي يكون موضوعه عنوان المشكوك و حيث إنّ المشكوك احتمال مطابقة الواقع و عدمها فيه متساوية فلا معنى للنظر فيه بعين الواقع فلهذا لا يتصوّر الطريقيّة بالمعين المتصوّر في الطرق فيه، غاية ما يتصوّر من الطوليّة للواقع

فيه أن يكون جعل مطلق الطرفي المطابقة و اللامطابقة بداعي تنجيز الواقع في طرف المطابقة و بداعي مصلحة في الجعل في طرف اللامطابقة.

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 440

و أمّا الحكم الطريقي فليس معلّقا بعنوان المشكوك، بل بمؤدّى شي ء لسانه الحكاية عن الواقع و كما أنّ نفس الحاكي ينظر في مؤدّى خبره بعين الواقع و لا يرى المغايرة بينه و بين الواقع، كذلك مفاد الدليل الذي يعطي الاعتبار و التصديق العملي إيّاه هو جعل حكم مماثل بعنوان أنّه مع الواقع منطبق و متّحد، و الاحتمال للمغايرة و إن كان موجودا وجدانا لكنّه يدفعه و يبنى على خلافه و يفرضه كالعدم، هذا حال الدليل الثانوي بحسب ماله تصوّرا من الأقسام.

و أمّا الدليل الأوّلي فقد يكون التحكم فيه معلّقا على الموضوع الواقعي الحقيقي كما هو المعنى لقوالب الألفاظ، و قد يكون معلّقا على الأعمّ من الواقع الحقيقي و التنزيلي كأن يكون المراد من الخمر في دليل لا تشرب الخمر أعمّ من الخمر الواقعي و من التنزيلي، أعني ما ثبت خمريّته باستصحاب أو أمارة، و كذلك الدليل على أنّه لا يجوز الصلاة في جزء محرّم اللحم أريد منه الأعم من المحرّم الواقعي و التنزيلي، يعني ما حكم عليه الشرع إمّا بلسان الأمارة أو بلسان الأصل أنّه حرام.

و حينئذ فنقول: لو كان الدليل الأوّلي مفاده الحكم على الأعم من الموضوع التنزيلي و الواقعي بأن يكون دليل إثبات شرطيّة طهارة لباس المصلّي و بدنه و دليل إثبات مانعيّة حرمة لحم الحيوان الذي لبس جزأه المصلّي أو شرطيّة حليّته مثبتا للشرطيّة للأعمّ من الطهارة الواقعيّة و الظاهريّة، و كذلك المانعيّة للأعمّ من الحرمتين أو الشرطيّة للأعمّ من الحلّيتين فلا

إشكال في أنّه لو اقتضى أصل أو أمارة في الشبهة الموضوعيّة أو الحكميّة طهارة اللباس أو حلية الحيوان فاللازم ترتيب أثر الصحّة بعد انكشاف الخلاف.

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 441

إن قلت: هذا في الأصل حيث إنّ التنزيل فيه شامل لصورة اللامطابقة تامّ، و أمّا في الطريق- حيث إنّ التنزيل ليس إلّا في فرض المطابقة و قد ظهر خلافها فما هو واقع غير منزّل و ما هو منزّل غير واقع- فغير تامّ.

قلت: قد فرضنا أنّ الأثر مرتّب على ما يشمل ما حكم عليه بالطهارة أو بالحليّة و لو بلسان الطريقيّة، و هذا المعنى واقع و ما انكشف خلافه، و بعبارة أخرى حكم هذا واقع لم ينكشف خلافه، بل ارتفع بانقلاب الموضوع. نعم المحكوم به «1» قد انكشف خلافه، و بالجملة لا إشكال في هذا الفرض لأنّ المصداق الحقيقيّ لما هو موضوع الشرطيّة أو الشطريّة قد تحقّق.

و لو كان الدليل الأوّلي مفاده جعل الشرطيّة أو الشطريّة للموضوع الحقيقيّ دون الأعمّ كما هو الواقع، فحينئذ لا بدّ من الفرق بين ما إذا كان الدليل الثانوي مشتملا على الحكم الطريقي و ما كان مشتملا على الأصلي.

ففي الأوّل لا بدّ من عدم ترتيب أثر الصحّة بعد انكشاف الخلاف إذ ليس مفاد الطريق إلّا إراءة الواقع و أنّ الطاهر أو الحلال الواقعي الذي كان موضوع شرطيّة الصلاة متحقّق، و قد ظهر أنّ ما حكاه غير واقع و ما أخبر عن طهارته غير طاهر و عن حليّته غير حلال.

و أمّا في الثاني: فإن كان مفاد الدليل الثانوي هو أوّل الوجهين اللذين ذكرناهما من عرضيّته مع الواقع في الشبهة الموضوعيّة و كذلك الحكميّة بالنسبة إلى آثار الحكم المشكوك، فلا بدّ

من ترتيب آثار الصحّة؛ إذ قد ذكرنا أنّ الدليل الثانوي يوجب تعميم دليل الشرطيّة أو تخصيصها لبّا و إن كان بلسان الحكومة و التنزيل

______________________________

(1)- المحكىّ به.

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 442

ظاهرا من غير فرق بين الشبهة الموضوعيّة، كما لو أحرز طهارة الثوب المشكوك الطهارة من جهة الموضوع الخارجي بقاعدتها و بين الحكميّة بالنسبة إلى الآثار كما لو أحرز طهارة الثوب الملاقي للغسالة المشكوك من جهة الشك في طهارة الغسالة بقاعدتها، أو أحرز حلية الحيوان المتولّد من الحيوانين المشكوك حكمه الكليّ بقاعدة الحليّة، و إن كان مفاد الدليل الثانوي هو الوجه الأخير من الطوليّة فاللازم ترتيب أثر البطلان و عدم الصحة بعد الانكشاف، إذ المفروض أنّ الواقع من حيث نفسه و أثره معا محفوظ و لم يتبدّل فالصلاة مشروطة واقعا بالطهارة أو الحليّة الواقعيين و قد ظهر كونها فاقدة لهما.

هذا كلّه بحسب مقام الثبوت في الدليل الثانوي إذا كان أصلا، و أمّا بحسب الإثبات فقد رجّحنا في حديث الرفع كون موضوع ما لا يعلمون من حيث شموله للشبهات الموضوعيّة تقييدا للواقعيّات كما هو الحال في ما اضطرّوا إليه و سائر الأخوات، فيقال: الخمر التي لا يعلم خمريّتها ممّا لا يعلمون فرفع أثرها و هو الحرمة فيخصّص دليل لا تشرب بالخمر المعلوم خمريّتها، و كذلك الطاهر و الحلال المشكوكان من حيث الشبهة الموضوعيّة، فإنّهما أيضا ممّا لا يعلمون فرفع أثرهما و هو الشرطيّة في الصلاة، فيخصّص دليل الاشتراط بالطاهر المعلوم طهارته و الحلال اللحم المعلوم حليّته، و لكن يجي ء فيها الكلام الآتي في الشبهة الحكميّة بالنسبة إلى الآثار حرفا بحرف.

فإن قلت: هذا يوجب الجمع بين اللحاظين إذ أوّلا كيف يمكن في إنشاء واحد

جعل نفس الحليّة أو الطهارة و تنزيلها في الأثر منزلة الحليّة و الطهارة الواقعيين الذي مرجعه إلى جعل الأثر فهذا جعل للموضوع و الحكم مع كونهما مترتبين في إنشاء واحد، ثمّ كيف يمكن اختلاف الإنشائين من حيث إنّ الملحوظ

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 443

في الأوّل طوليّة الواقع، و في الثاني التقييد و العرضيّة.

و حاصل الإشكال الأوّل: أنّه لو كان أثر الحليّة و جواز الصلاة كلاهما لجلد المأكول في عرض واحد لم يكن مانع من تنزيل جلد الأرنب منزلته في كلا الأثرين، لكن الفرض أنّ الحليّة أثر الجلد و الجواز أثر الحليّة فكيف يمكن في لحاظ واحد الجمع بين هذين التنزيلين، بل لا بدّ من تنزيل للجلد حتّى يحصل الحليّة، ثم تنزيل للحليّة حتّى يحصل الجواز، و حاصل الثاني: أنّ هذين التنزيلين كيف يمكن اختلافهما في الطوليّة و العرضيّة فإن كان الملحوظ الأوّل ففي كليهما، و إن كان الثاني فكذلك فما وجه التفكيك؟

قلت: هذا الإشكال هو ما يورد على ما ذكروه في الاستصحاب من التفصيل في الآثار مع الواسطة بين ما كان بواسطة عقليّة فلا تترتّب أو شرعيّة فتترتب، و حاصل الإشكال: أنّه ما الفرق بين المقامين، فإنّ لا تنقض في كلّ شي ء لا يقتضي إلّا ترتيب أثر نفسه لا أثر أثره؛ إذ ليس ترتيب أثر الأثر عدم النقض لهذا الشي ء و هذا المعنى موجود في المقامين فما وجه الفرق؟

و حاصل الدفع: أنّ الحليّة مثلا و إن كانت مجعولة في موضوع المشكوك و لكن فرق بين ما إذا جعل في موضوع الشك ابتداء حكم الحليّة، و بين ما إذا كان جعلها بعناية أنّها هي الحليّة الواقعيّة، و بالنظر إليها بعين الواقع، فإنّ

الحكم الظاهري ليس الظاهريّة من جملة مفاده، بل مفاده الحليّة الواقعيّة، فهو حكم ذو جنبتين جعل و عناية، فمن حيث الجعل تحدث الحليّة و من حيث العناية يحصل تنزيل آخر لهذه الحليّة منزلة الحليّة الواقعيّة فيما لها من الأثر، و هو أيضا بهذه العناية، فيحدث تنزيل ثالث، و هكذا إلى كلّ أثر شرعيّ مرتّب على أثر شرعيّ فهو تنزيل واحد ينحل إلى تنزيلات طوليّة.

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 444

و من هنا يظهر اندفاع الإشكال الثاني؛ فإنّ الجعل و إن كان في طول دليل حرمة الأرنب مثلا و لكنّ العناية المذكورة يمكن فيها ملاحظة طوليّة دليل الأثر بأن تبقى ملاحظة الطوليّة مستمرّة من الأوّل إلى الآخر، و يمكن فيها ملاحظة عرضيّة ذلك الدليل.

و أمّا الشبهة الحكميّة بلحاظ الآثار كما لو شكّ في الطهارة من أجل الشك في الغسالة أو في حلية الأرنب فشكّ في أثرهما و هو الشرطيّة للصلاة. فقد رجح صاحب الكفاية ذلك في قاعدتي الطهارة و الحليّة بالضرس القاطع و في الاستصحاب في مبحث الإجزاء في وجه قوي، و في الاجتهاد و التقليد بالضرس القاطع.

أمّا جزمه في الأوليين فلأجل استظهاره الوجه الأوّل بالنسبة إلى الآثار و إن كان لا بدّ من الثاني بالنسبة إلى ذواتها، و لا يلزم اجتماع اللحاظين لأنّ مفاد كلّ شي ء حلال و كلّ شي ء طاهر هو ترتّب آثارهما فإنّهما تنزيل، و معنى التنزيل ترتيب الآثار، و آثار الطاهر و الحلال الواقعيين جواز الأكل و الشرب و هذا معنى الطهارة و الحليّة و آثار أخر مرتّبة على هذين الموضوعين، و هي عدم نجاسة الملاقي و جواز الصلاة في الأوّل و جواز الصّلاة في الثاني فالدليلان من حيث الأثر

الأوّل حالهما حال دليل تنزيل الرجل الجاهل بمنزلة العالم، حيث إنّه لا يكوّنه عالما و لكنّه لبا مكوّن لآثار العالم فيه.

و أمّا ترديده في الاستصحاب فلاحتمال أن يكون مفاده عامل معاملة الواقع فيشترك في الأثر مع دليل اعتبار الطريق الذي مدلوله أنّ هذا واقع، و مدلول دليله عامل مع مؤدّاه معاملة الواقع، و هو عدم التصرّف في الواقع، غاية الأمر أنّه طريق

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 445

حيث لا طريق، فإذا انقطع عن سائر الطرق يكون الاستصحاب مرآتا له و كاشفا عنه و مقيّدا للحكم بلسان أنّه واقع، فيكون اللازم عند انكشاف الخلاف ترتيب أثر البطلان و أن يكون مفاده أيضا كالقاعدتين هو التنزيل الراجع إلى رتّب الأثر في موضوع الشكّ، ثمّ رجّح الثاني في المبحث الأوّل و جزم به في المبحث الثاني.

أقول: القاعدة في الجمع بين الدليلين حفظ ظهور مدلول الكلام مهما أمكن، و إذا فرضنا أنّ الدليل الثانوي بالنسبة إلى دليل الأثر و هو عدم جواز الصلاة في جزء المحرّم و في الشي ء النجس يمكن أن تكون نسبته هي النسبة بينه و بين دليل أصل حرمة الأرنب و نجاسة الغسالة مثلا في عدم تعرّضه لما في الواقع، و إنّما كان مجرّد بيان وظيفة عمليّة لئلّا يبقى المكلّف معطّلا في عمله مع حفظ الواقع على ما هو عليه كان هذا هو المتعيّن، إذ هو سالم عن تقييد دليل لا يجوز الصلاة في جزء المحرّم و في الشي ء النجس بالمحرّم و النجس المعلومين بخلاف الوجه الأوّل.

فإن قلت: هذا ينافي مع ما مشيته في الجمع بين الواقعي و الظاهري من دخل وصف التجرّد عن المشكوكيّة في موضوع الواقعي بحسب اللحاظ نظير دخل وصف

التجرد في حمل الكلية على الإنسان.

قلت: ليس هو تقييدا مدلوليّا في دليل الواقع كما حقّقناه في محلّه كما أنّ الكليّة غير محمولة على الإنسان المقيّد بالتجرّد بحيث كان التقييد في مدلول القضيّة، بل هو كيفيّة لحاظيّة لواقعها دخل في صحّة الحكم، فالقضيّة بحسب المدلول مطلقة و إن كانت في لحاظ القيد.

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 446

ثمّ إنّه لا إشكال في أنّه لو بنى على الأصل العقلي في الاجتهاد ثمّ انكشف الواقع فلا إشكال في عدم الإجزاء، و أمّا لو تبدّل رأيه في حكم العقل من البراءة إلى الاحتياط و قد كان صلىّ بلا سورة مثلا فلا إشكال في الإعادة في الوقت، و أمّا القضاء بعد الوقت فإن قلنا إنّه بالأمر الأوّل فلا إشكال فيه أيضا، و إن قلنا كما هو الحق بأنّه بأمر جديد، فإن كان وجوبه معلّقا على الفوت فالأصل البراءة؛ إذ ليس هنا أصل يثبت عنوان الفوت و إن كان كما هو مضمون رواية معلّقا على صدق ترك الواجب، فقد يتوهم أنّ استصحاب تركه في الوقت مفيد لوجوب القضاء و هو توهّم؛ إذ ليس في الخارج شي ء يشكّ في تركه و إيجاده فإنّ الصلاة بلا سورة مقطوع الفعل و معها مقطوع الترك و بعدهما يبقى عنوان الموضوع للحكم أو عنوان المأمور به مشكوك التحقّق، و هما بهذين العنوانين لم يقعا موردا للآثر، و إنّما الأثر و هو وجوب القضاء، بل كلّ الآثار على معنوناتهما و هو نفس المصاديق الخارجيّة، و قد فرض عدم الشكّ بحسبها، فهذا الاستصحاب نظير استصحاب عدم الغروب عند الشك في أنّه السقوط أو الذهاب فيما بعد الأوّل و ما قبل الثاني.

ثمّ إنّه أشار إلى ما ذكرنا

من الفرق بين الأداء و القضاء في الفرض المزبور شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- في كتاب الصوم و مثل ما ذكرنا جار في الاحتياط الشرعي أيضا بمعنى أنّه لو تبدّل من البراءة إلى الاحتياط بعد الوقت، و قد كان صلّى الصلاة بلا سورة، إلّا أن يقال: إنّ استصحاب وجوب الصلاة الأعم من الأداء و القضاء جار؛ لأنّ المفروض أنّ وجوب القضاء على فرضه متّصل بوجوب الأداء و لا يتخلّل بينهما العدم و خصوصيّة الأداء و القضاء أيضا غير معدّدة للموضوع بنظر العرف الذي هو المعيار في الاستصحاب، نعم لو كان المعيار الموضوع الدليلي لما كان الاستصحاب جاريا إلّا بناء على جريان استصحاب الكليّ

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 447

في القسم الثالث؛ لأنّ شخصا من الوجوب زال و شك في تبدّله بآخر أو لا و لكنّه غير جار هنا و إن قلنا بجريانه في غير المقام.

فصل اعلم أنّه لا ثمرة في النزاع في معنى التقليد في أصل وجوبه

فإنّ الواجب على المقلّد الأمران من الأخذ و العمل على كلّ حال كان التقليد اسما للأوّل أو للثاني، أو للأوّل بقصد الثاني فترتيب الثمرة في هذه المسألة على ذلك النزاع، و أنّه لو كان اسما للعمل لكان العمل بلا تقليد لا وجه له؛ فإنّ اللازم تطبيق العمل على رأي العالم و هو حاصل على كلّ حال، و ليس لنا دليل لفظي أو لبّي على وجوب كون العمل عن تقليد حتّى نتكلم في أنّه بم يتحقّق، نعم يظهر ثمرة هذا النزاع في مسألة وجوب تقليد الحيّ كما يأتي تفصيله إن شاء اللّه.

و لا بدّ أوّلا من تأسيس الأصل في المقام، فاعلم أوّلا أنّه لا محيص عن كون أصل التقليد أمرا ارتكازيّا مركوزيا للعوام أيضا، و إلّا لزم سدّ باب

العلم به على العامي، فإنّه ليس له قوّة الفهم و الاستنباط من الكتاب و السنّة، و لا الاقتدار على تحصيل الإجماع، و تقليده فيه أيضا دوريّ أو تسلسلي، و إذن فلا بدّ من القول بأنّه فارغ بارتكازه عن مسألة العالم في أصل مسألة التقليد، بل بطبعه يصير إليه و يأخذ بقوله متعبّدا به، و لا معنى لنزاع الأخباري في هذا الأمر اللبيّ الارتكازي بعد أنّهم بمقتضى فطرتهم قائلون لهذا المعنى؛ ضرورة أنّ عوامهم غير قادرين على الاستنباط كما يقدر مثل صاحب الحدائق منهم، فلا محالة بعد تنقيح الكلام و ملاحظة المدارك و الجرح و التعديل بينها كما هو ديدنه كالأصولي يسلّم نتيجة نظريّاته إلى العوام للعمل، و إلّا فلو وضع علماؤهم الأخبار و المدارك بين يدي عوامهم كيف يكون لهم ذلك كما عرفت، و بعد ذلك لا مشاحة في التسمية فإن

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 448

كان الوحشة من اسم التقليد و أنّه موهم لأن يكون المجتهد برأيه و ميلة يستنبط الأحكام بحيث كان له حظّ في التشريع و الوضع و الرفع فلا نزاع فيه، و نسمّيه رجوعا إلى العالم و لا يوجب ذلك كسائر مواد اختلاف الطائفتين صيرورة اختلافهما مذهبيّا يطعن كلّ على صاحبه و من اللّه الهداية و التوفيق.

و بالجملة بعد وضوح الحال على العامي في أصل التقليد في الجملة بسبب ارتكازه فإن وضح عليه في خصوصية مساواة الحيّ و الميّت فلا يسأل لا محالة عن العالم، فإن تحيّر من هذه الجهة فسأل العالم فأجابه بشي ء كان ذلك كافيا له، فمحلّ الكلام في هذا المقام أنّ هذا العالم المسؤول هل له في المقام أصل و قاعدة يقتضي الرجوع إلى الميّت

حتّى نتكلّم بعده في الدليل الثانوي و مقدار دلالته أو لا؟

فنقول: الحقّ وجوده و هو استصحاب حجّية رأى الميّت و تقريبه بأحد نحوين:

الأوّل: استصحاب الحكم المتعلّق بالعنوان أعني استصحاب حجّية رأي العلّامة- أعلى اللّه مقامه- مثلا للبالغ العاقل، فنقول: كان رأيه على هذا العنوان حجّة و نشكّ الآن في زواله فمقتضى الاستصحاب بقاؤه. لا يقال: تسريته إلى الأشخاص مثبت. لأنّا نقول: تسرية الحكم من العنوان إلى أشخاصه من لوازم الحكم الأعمّ من الظاهري و الواقعي، و بالجملة لا فرق بين هذا الاستصحاب و استصحاب حكم وجوب الجمعة في موضوع المكلّف و كذا استصحاب حكم كذا في موضوع المستطيع الثابت في الزمان السابق فإنّهما يوجبان ثبوت الحكم للأشخاص في هذا الزمان إذا صاروا مكلّفين أو مستطيعين.

و الثاني: الاستصحاب التّعليقي في نفس الأشخاص بأن يقال: هذا الشخص في الزمان السابق- و نشير إلى زمن العلّامة- لو كان موجودا و كان بالغا

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 449

عاقلا لكان وجب عليه تقليد العلّامة و كان رأي العلّامة حجّة في حقّه، و الآن نشك في ذلك، فمقتضى الاستصحاب بقاء الحجيّة في حقّه.

و لا يرد إشكال على هذين التّقريبين إلّا ما يتوهّم من أنّ الموضوع للحجّية هو الاعتقاد و الرّأي و قد زال بزوال الموضوع، و من شرائط الاستصحاب إحراز الموضوع و هو في غاية من البطلان.

و توضيحه: أنّ لنا اعتقادا وصفة نفسانيّة تابعة في الوجود و العدم لوجود موصوفه و هو الشخص و طريقته و كشفا حاصلا من هذه الصفة و هو باق بعد فناء تلك الصفة. ألا ترى أنّا نثق من قول الراوي: «قال الصادق- عليه السلام-» بصدور هذا القول من الصادق- عليه السلام- مع

أنّه لو قال: «قال الصادق- عليه السلام- احتمالا» لا يحصل لنا وثوق فمع كون الموجب لوثوقنا قطع الراوي و هو ليس فعلا موجودا يحصل لنا تلك المرتبة من الوثوق بعينها التي تحصل حال حياة الراوي، و هكذا الوثوق الحاصل من فتوى المشهور أو الكلّ أو من كتاب شيخنا المرتضى ليس الموجب لحصول الاطمئنان إلّا جزم هؤلاء بحيث لو أظهروا التّرديد لما حصل لنا الظنّ أصلا مع أنّه ليس في الحال من ظنّهم عين و لا أثر، فليس ذا إلّا لأنّ الظنّ الحاصل للثقة و الخبير في الاستنباط في قطعة من الزّمان فهو متى لوحظ في موطنه الذي هو الماضي كان له الكشف و الإراءة للواقع فعلا، و لا شبهة أيضا أنّ الارتكاز القطعي الحاكم برجوع الجاهل إلى العالم ليس بمناط في العلم و اليقين بما هو صفة من الصفات، فيكون حال المقلّد حال الدّراويش و الصوفية بالنسبة إلى مرادهم فيما يعبّر عنه بالفارسية ب «سر سپردگى» حتّى يقال: إنّه تابع لوجود هذا الوصف فإذا صار من العظام الرميمة لا بدّ من إدخال الرأس في تبعية حيّ آخر، بل ليس إلّا بملاك الأقربية إلى الواقع و كشفه عنه، فإذا فرضنا هذا الملاك يكون لوجوده

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 450

الحدوثي و ليس لبقائه فيه مدخل كان في حكم الحجية الارتكازية أيضا كذلك فلا يحتمل دخل البقاء حتّى يقال: ليس موضوع المستصحب بمحرز إذ لم يعلم أنّه الظنّ حدوثا أو الظنّ الفعلي.

و حيث علم أنّ حدوث الظنّ موضوع الحجّية بملاك الطريقية و الكشف فمتى زال عنه هذا الملاك زالت عنه الحجّية، فلا مجال للنّقض بتبدّل الرأي في الحيّ حيث لم يقل أحد بجواز أخذ

المقلّد رأيه الأوّل للاستصحاب.

وجه فساد النقض أنّه لأجل أنّ الطريقيّة قد زالت فإنّ الثقة إذا أخبر بشي ء ثمّ قال: اشتبهت أو تردّدت في إخباري، لا يبقى الوثوق بإخباره الأوّل و هذا واضح.

فإن قلت: فإذا كان موضوع سيرة العقلاء معلوما و محرزا أنّه الظنّ بوجوده الحدوثي لا الفعلي، غاية الأمر بملاك الطريقية و الكشف فلا نحتاج إلى الاستصحاب، إذ احتمال ردع الشارع يكفي في عدمه عدم الوصول كما قرّر في محلّه و لا نحتاج إلى استصحاب العدم.

قلت: نعم، لكنّا لا نحتاج إلى الاستصحاب من جهة هذا الشك، بل لمّا رأينا دخل بعض القيود في موضوع هذا الأمر الارتكازي ممّا لا يكون للارتكاز إليه سبيل و ثبت ذلك بالتعبّد الشرعي كقيد الذكورة و العدالة و العقل و عدم الإغماء، فنحتمل أن يكون قد اعتبر شرعا قيد الحياة أيضا فالاستصحاب لدفع احتمال هذا القيد نافع.

ثمّ إن اخترنا في الطرق و الأمارات أنّ المجعول هو الطريقيّة فالمستصحب هو الطريقيّة و الحجّية السابقة الثابتة لفتاوى العلّامة- أعلى اللّه مقامه- و إن قلنا:

إنّه الحكم على طبق مؤدّى الإمارة من وجوب الجمعة و النّفقة، إلى غير ذلك من الفروع الفقهية فالمستصحب نفس هذه الأحكام المجعولة. هذا هو الكلام في

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 451

الاستصحاب.

ثمّ إن كان هنا إجماع على أنّ من لم يدرك زمن العلّامة مثلا و لم يأخذ فتاواه لا يجوز تقليده للميّت ابتداء فلا بدّ للعالم المذكور من عدم ترخيص العامّي ثمّ يتنزّل بعده إلى الشخص المدرك لزمن الشيخ الأنصاري- قدّس سرّه- مثلا و لكن ما أخذ و ما عمل حتّى فات، فإنّ الاستصحاب في حقّه أيضا جار. فإن استفيد إجماع على أنّ هذا أيضا من

تقليد الميّت ابتداء و هو غير جائز فيتبعه ثم يتنزّل إلى الشخص المدرك مع أخذه المسائل إجمالا كأن أخذ الكتاب و لكن لم يوفّق للأخذ التفصيلي، أو أنّه تساهل و ما أخذ كذلك حتّى مات مجتهده، فإن كان هنا أيضا إجماع على عدم الجواز يتنزّل إلى المدرك و الأخذ للمسائل تفصيلا و لكن قبل العمل مات مجتهده فإن قام فيه أيضا الإجماع يتنزّل إلى من أخذ المسائل و عمل بالمقدار المبتلى به مع البناء على التقليد في غيرها على تقدير الابتلاء، فإن رأينا ذلك غير مشمول للإجماع المذكور كان الاستصحاب المذكور جاريا.

فلو كان لفظ تقليد الميّت معقدا للإجماع كان هنا محلا للنزاع المشار إليه سابقا، و يظهر نتيجته، فإنّه لو كان التقليد عبارة عن الأخذ كان الشخص الموجود في زمان المجتهد مع عدم الأخذ داخلا تحت الإجماع، و إن كان الأخذ تفصيلا كان الأخذ الإجمالي داخلا، و إن كان لا بدّ فيه من العمل كان الأخذ التفصيلي الغير العامل داخلا، فلا بدّ من مراجعة الكلمات الصادرة من القوم في هذا المقام و أنّه هل يحصل منها الإجماع أو وحشته أو لا؟

هذا تمام الكلام في تأسيس الأصل، إذا عرفت ذلك فنقول: الحقّ أنّ الارتكاز في المقام على أصل رجوع الجاهل إلى العالم قائم فإنّ مرادنا بالعالم من كان عرفانه لأحكام اللّه المجعولة للعالمين و الجاهلين بحدّ كان خطاؤه في مورد يسأل

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 452

عنه الحكم موهوما لا يعتني باحتماله العقلاء، نظير احتمال الخطاء في حسّ غيره و هذا أمر ارتكازي ثابت في كلّ باب، و كذلك الحقّ أيضا عدم التفرقة في الارتكاز بين الحيّ و الميّت، كما نشاهد في المعمار

الذي يقوّم العمارة فإنّه لا يفرقون في أخذ قوله بين حياته و مماته، نعم لو حصل للعامي اشتباه من هذه الجهة، إمّا لإجمال ارتكازه أو لاحتماله الرّدع الشرعي من أجل ما قرع سمعه من أهل العلم فألجأه ذلك إلى السؤال عن العالم الحي فإن أجابه هذا الحي بالجواز أو اللاجواز فإن لم يعلم من الميّت في هذه المسألة قول لا نفيا و لا إثباتا، فلا ينقدح في نفسه المعارضة بين هذه الفتوى من الحيّ و الفتاوى الصادرة من الميّت في الفروع. كما هو الحال في ثقتين أخبر أحدهما بمجي ء زيد و الآخر بعدم اتّباع قول الثقة الأوّل، فإنّهم يأخذون بالثاني؛ لعدم التنافي بين المدلولين؛ إذ ليس عدم الحجيّة مساوقا للكذب، نعم ينقدح التعارض لو فرض للميّت قول بالجواز في هذه المسألة مع قول الحيّ بالعدم مثلا.

و أمّا كلماتهم في هذا المقام، فقد ادّعى في المعالم أنّ العمل بفتاوى الموتى مخالف لما يظهر من اتّفاق علمائنا على المنع من الرجوع إلى فتوى الميّت مع وجود الحيّ، و قد ادّعى غيره على عنوان التقليد و غيره أيضا، لكنّه يحتمل أن يكون هو أيضا بمعنى الرجوع. و بالجملة فنحن ندور مدار صدق اسم الرجوع و أنّه هل يتحقّق بمحض الالتزام القلبي على أخذ المسائل من فلان، فيقال: إنّه رجع إليه فإذا مات قبل الأخذ، يقال إنّ رجوعه كان إلى الحي، أو لا بدّ مع الالتزام من الأخذ و لو إجمالا، أو لا يصدق إلّا مع الأخذ تفصيلا، أو لا بدّ معه من العمل في مقامات الابتلاء، فإذا فرضنا صدق الرجوع إلى الحيّ في حقّ الأخير و أنّ بقاءه ليس من الرجوع إلى الميّت حتّى يمنعه الإجماع كان المرجع

في حقّه الاستصحاب.

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 453

و على هذا فكلّ مورد قطعنا بحرمة البقاء من جهة الإجماع انقطع حكم الاستصحاب بانقطاع موضوعه، و كلّ مورد شككنا في شموله بحسب الإجماع فالخروج عن شبهة الإجماع يقتضي العدول إلى الحيّ و الاستصحاب يقتضي البقاء على الميّت، فلا بد إمّا من الاحتياط بالأخذ بأحوط القولين، و إمّا من إثبات الإجماع على العدول إلى الحيّ و الخروج عن الترديد و الشبهة.

و لكن يمكن أن يقال: لا نحتاج إلى تجشّم هذا المعنى بل يمكن القول بأنّ الرجوع إلى الحيّ مطلقا على وفق القاعدة حتى في موارد شبهة الإجماع و جريان استصحاب تقليد الميّت فيكون الرجوع إلى الحيّ قدرا متيقّنا في جميع الأحوال، و توضيح ذلك: أنّه بعد أنّ أصل رجوع الجاهل إلى العالم أمر مفروغ عنه و لا يشكّ فيه المقلّد، لو حصل له الشكّ في خصوصيّة اشتراط الحياة و عدمه فهو في هذا الشك و التحيّر لا محالة يلتجئ إلى باب الحيّ و يسكن نفسه بما أرشده إليه ممّا هو وظيفته و تكليفه من جانب اللّه تعالى فهذا أيضا بصرافة طبعه و حكم ارتكازه.

فهذا العالم الحيّ الذي يصدّق هذا العامي في رجوعه إليه و اختياره له مرجعا و يصدّق ارتكازه الحاكم عليه بذلك بملاك خبرويّته في أحكام اللّه يرى أنّ لنفسه رأيين أحدهما قطع وجدانيّ مثلا بحكم وجوب الجمعة و أنّ ذلك هو حكم اللّه الثابت في لوح اللّه المحفوظ المشترك فيه جميع المكلّفين الذين منهم هذا العامي المستريح إليه.

و الآخر ما هو مقتضى الاستصحاب من بقاء هذا المقلّد على ما كان في زمن حياة الميّت من الرجوع إلى فتاويه التي منها حرمة الجمعة مثلا،

فهو و إن كان لا يرى نفسه موضوعا للاستصحاب و الحكم الظاهري أصلا لكونه قاطعاً بالواقع،

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 454

و لكنّ العامي شاكّ و يرى أنّ كلّا من الرأيين في حقّه طريق و ليس أحدهما مزيلا لشكّه بالنسبة إلى الواقع حتّى يكون هو واردا على الآخر. و بعبارة أخرى يرى صلاة الجمعة في حقّه كغيره واقعا حقيقيّا و مؤدّى قول الميّت واقعا جعليّا بدليّا، و بعد ما كان المطلوب من العباد أعم من الحقيقي و الجعلي فأين الملزم و المرجّح له لاختيار الرأي الثاني لهذا المقلّد و إفتائه إيّاه ببقائه على حاله السابقة. و بعبارة أخرى بالفرض هو خبير بأحكام اللّه لا بخصوص هذه المسألة إذ الخبير خبير في تمام الأحكام.

إن قلت: بالفرض المقلّد شاكّ في أنّ المرجع له في الفروع هذا أو الميّت؟

قلت: يعني لا يعلم أنّ أيّا منهما تكليفه بحسب الواقع، لكن يعلم أنّ كلا كان تكليفه فهو عند هذا العالم فهذا العالم بأيّ شي ء أفتاه يتقبّله هو و لا يشكّ في أنّه واقع تكليفه، و بعد ما كان هو بهذه المثابة باعتقاد العامي المعترف له بذلك هذا العالم أيضا، و المفروض أنّ له في البين رأيين كلاهما ممكن التحقّق و الصدق واقعا لأنّ الجمع بينهما كلّ في موطنه بمكان من الإمكان كما مرّ في الجمع بين كلّ واقعي و ظاهري، فلو أمكن للعامي الجمع بينهما عملا تعيّن على العالم إفتاؤه بمقتضى كلا الرأيين، فإذا امتنع الجمع عملا فما المعيّن له بالإفتاء بخصوص البقاء على تقليد الميّت و المانع له عن رجوعه في الفروع إلى نفسه، فهل دليل خبرويّته خاص بالأوّل أو أنّه لا يرى ما رآه برأيه من

الفروع تكليفا لمن عدا نفسه من المكلّفين، و قد فرضنا أنّ كلا من هذين خلاف الواقع، و ليس تعيين الأخذ بفتوى الميّت الثابت في حال حياته المستصحب بعد مماته إلّا كتعيين صلاة الجمعة المقطوع به بالدليل القاطع أو المدلول عليه بالدليل القطعي.

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 455

و أمّا عدم جواز الرجوع إلى هذا الحيّ الثابت في حياة الميّت فلا يجوز استصحابه؛ لفرض انقطاعه بالقطع بخلافه، لفرض أنّه بعد انقداح الشكّ للعامي بعد ممات مجتهده صار ساكن النفس إلى هذا المجتهد و رأى تكليفه الإلهي مودوعا عنده، و بعد ذلك فالقول بأنّه إنّما يراه خبيرا في خصوص هذه المسألة الأصوليّة دون الفرعيّات لا يخفى عدم سداده؛ لأنّه يراه خبيرا بمطلق أحكام اللّه و شكّه فيما هو واقع تكليفه لا ينافي قطعه عقيب إخبار هذا المجتهد بأنّ كذا واقع تكليفك.

و لعمري هذا واضح، نعم هذا المعنى يجري في المجتهدين الحيّين أيضا لو قلّد العامي أحدهما ثمّ جاء عند الآخر و هو شاكّ في جواز الرجوع و عدمه بعين ما قلنا من التقريب، فإن لم يقم إجماع على خلافه فهو على وفق القاعدة، فثبت من جميع ما ذكرنا أنّ العدول إلى الحيّ على كلّ حال على وفق القاعدة، و ليس على خلاف الاستصحاب، بل الجمع بين الارتكاز و الاستصحاب يقتضي جوازه كما مرّ بيانه، فلا يحتاج إلى إثبات الإجماع على الجواز في قبال الاستصحاب.

فإن قلت: بناء على وجوب تقليد الأعلم و كان الميّت أعلم لا يتمّ ما ذكرت من الارتكاز في حقّ الحيّ فلا محيص فيه عن الأخذ بأحوط القولين خروجا عن شبهة الإجماع و عن مخالفة الاستصحاب.

قلت: يمكن تطبيق الرجوع و العدول في هذه

الصورة أيضا على القاعدة حتّى بناء على القول بوجوب تقليد الأعلم، و ذلك لأنّه لا يشكّ أحد أنّ الميرزا القمّي- قدّس سرّه- كان أعلم من أهل زماننا، بمعنى أنّ تلك المرتبة التي كانت للمطالب العلميّة حين صارت مطرحا لنظره- قدّس سرّه- فأعمل النظر و بذل

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 456

الجهد حتّى أسّس القوانين و أتقن المباني الأصوليّة لو وصلت المطالب بتلك المرتبة و المنزلة إلى أهل عصرنا بدون تنقيح الميرزا و الطبقات المتأخّرة لما وصل أنظارهم معشار ما وصل إليه الميرزا و لم تبلغ قوّتهم و زحمتهم معشار قوّته و زحمته، ثمّ إذا خرجت هذه التنقيحات من يد الميرزا و وقعت في أيدي المتأخّرين عنه كانوا لا محالة فارغين عمّا شيّده الميرزا فصرفوا الهمّة على ما زاد من المطالب التي لا يجد الفرصة للتنبيه لها أصل المؤسّس لأنّ شغله كان نحو التأسيس و صرفه ذلك عن إصلاح الفروع.

و هكذا الحال في شيخنا المرتضى الأنصاري- قدّس سرّه- فلا يبلغ معشار نظره و قوّة علميّته و همّته أهل عصرنا، لكنّ المباني التي أحكمها و الأصول التي خرجت من بنان أفكاره لم تفت عمّن تأخّر عنه، بل بقيت بعده ثابتة في كتبه، فالدورة المتأخّرة صاروا جامعين لنتائج مساعي هؤلاء الفحول التي أبقوها لهم مضافا إلى أنظار أخبر يعملونها فوق هذه المباني، و يصلون إلى بعض خصوصيّات شغل صاحب المباني عن الالتفات بهذه الدقيقة شغله إلى الشأن الأعظم و مصروفيّة همّته إلى تأسيس البنيان المستحكم.

فالعلم بناء على هذا يكون مترقّيا و منتقلا من النقصان إلى الكمال، فالأعلميّة التي هي معيار التقليد موجود في المتأخّر و الأعلميّة بمعنى ازدياد القوّة و اشتداد الفحليّة في العلميّات موجود

في المتقدّم من مثل الميرزا و الشيخ- قدّس اللّه أسرارهما و أسرار سائر علمائنا الماضين و أطال عمر الباقين منهم سيّما أستاذنا الأعظم و عمادنا الأفخم.

ثم إنّ للمحقّق الخراساني- طاب ثراه- في كفايته كلاما على الاستصحاب

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 457

الذي ذكرنا لا بأس أن نذكره و الإشارة إلى ما فيه، قال- قدّس سرّه- بعد ذكر الإشكال المعروف من أنّ الموضوع للحجيّة المستصحبة و هو الرأي و الظن قد انتفى بما حاصله:

إن قلت: نحن نستصحب الأحكام التي كانت مجعولة عقيب أنظار المجتهد و ليست ظنون المجتهد فيها إلّا واسطة في الثبوت لا واسطة للعروض، فليست الظنون معروضة لهذه الأحكام حتى يرد الإشكال الوارد على استصحاب الحجيّة.

قلت: أوّلا: هذا خلاف التحقيق الذي اخترناه في الطرق و الأمارات من أنّ مفاد أدلّتها ليس إلّا جعل الحجيّة التي من أثرها التنجيز و العذر دون الأحكام المماثلة للمؤدّيات، و ثانيا سلّمنا أن مفادها جعل الأحكام لكن ظنون المجتهد ليست حالها حال القطع في عدم وقوعها وسطا لثبوت الأحكام لمتعلّقاتها فلا يقال: صلاة الجمعة معلومة الوجوب، و كلّ معلوم الوجوب واجب مقدّمته، بل نقول صلاة الجمعة واجبة و هكذا، و أمّا عند قيام الطريق المعتبر نقول: صلاة الجمعة ممّا قام الدليل المعتبر على وجوبها، و كلّما قام الطريق المعتبر على وجوبه فهو واجب، فعلم أنّ حال استصحاب الحكم حال استصحاب الحجيّة.

أقول أوّلا: ما ذكره من أنّ التحقيق في الطرق جعل الحجيّة، فيه بعد تسليم إمكان جعل الحجيّة ابتداء، أنّه لو لم تستتبع هذه الحجيّة حكما كما لم يستتبعها حكم فليس حاله إلّا حال الحجيّة التي يحكم بها العقل في حال الانسداد في الظنون المطلقة في أنّه

لا يجوز نسبة مضمونها إلى الشرع؛ إذ الحجيّة لا تفيد إثبات الواقع، فاللازم على هذا المبنى عدم التمكّن في العبادات من قصد القربة الجزميّة

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 458

بل لا محيص عن الإتيان بها دائما رجاء فالصّواب أنّه على القول بجعل الحجيّة تستتبع جعل الحكم.

و ثانيا: ما ذكره من أنّ الظن على خلاف القطع في وقوعه وسطا، فيه أنّه على هذا يكون الحال في الطرق الشرعيّة القائمة في حقّ المجتهد أيضا بهذه المثابة، فإذا شكّ في زمان في بقاء الحكم الطريقي لا بدّ أن لا يجري الاستصحاب فيلزم سدّ باب الاستصحاب في عامّة الشبهات الحكميّة، لأنّ الطريق حاله كالظن المذكور في وقوعه وسطا و كما أنّه يزول الظن بواسطة الموت يزول الطّريق بواسطة طروّ الشك.

فإن قلت: بناؤه- قدّس سرّه- في الاستصحاب في موارد الطرق عند طروّ الشكّ عليها هو استفادة الملازمة من أخبار الاستصحاب بين ثبوت الشي ء واقعا و بين بقائه تعبّدا من دون مدخليّة لصفة اليقين بالحدوث في الملازمة الشرعيّة أصلا، و إنّما شأنه الطريقيّة الصرفة، و إذن فالدليل على الثبوت يصير بضميمة أخبار الاستصحاب دليلا على البقاء. قلت: هذا التقريب مشترك في المقامين فلم لا يقول في مقامنا أيضا ذلك؟

ثمّ إنّه قد يورد على ما ذكرنا من تخيير المجتهد بعد رجوع المقلّد إليه عند موت المجتهد السابق بين الإفتاء بمقتضى الاستصحاب بالبقاء و بين الإفتاء بمقتضى الارتكاز بالعدول إشكالات:

أحدها: أنّ ما ذكرت من أنّه ليس بين الفتوى بوجوب البقاء بالاستصحاب و بين الفتوى بوجوب الجمعة مثلا مع قول الميّت بحرمتها تناف و تعارض حتى يتساقطا، بل بينهما التزاحم من قبيل التكليف بإنقاذ الغريقين اللذين يعجز عن الجمع بينهما حتى

يكون حكمه التخيير غير مسلّم؛ فإنّ البقاء ليس إلّا نظير

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 459

التصديق في خبر الثقة معناه العمل الخارجي على طبق الفتوى فمحصّل وجوب البقاء حرمة الجمعة و هو معارض مع الفتوى بوجوبها، ففي الحقيقة هنا فتويان: أحدهما بالحرمة و الآخر بالوجوب، فلا بدّ من تساقطهما و الرجوع إلى مقتضى العلم الإجمالي من الأخذ بأحوط القولين.

و الجواب أنّ هذا الكلام في غاية السقوط فإنّه يستلزم محاليّة اجتماع هذين الفتوائين للمجتهد الواحد، إذ يصير بمنزلة القطع بالمتناقضين مع بداهة إمكانه، و السرّ أنّ أحدهما فتوى في المسألة الأصوليّة و الآخر في الفرعيّة، و من الممكن في الواقع و عالم الثبوت أن يجتمع حكم وجوب الجمعة و حكم حجيّة قول الميّت تعيينا دون الحيّ؛ إذ ليس هذا إلّا الجمع بين الحكم الواقعي و الظاهري الذي قد فرغنا منه، و إذا أمكن اجتماع الفتوائين للمجتهد فيتحقّق في حقّ المقلّد أمارتان:

إحداهما: تكشف عن حكمه الواقعي الأوّلي، و الثانية: عن حكمه المجعول له في طول الواقعي فإن كان أمكن له الجمع تعيّن عليه فمع عدمه كان مخيّرا.

ثانيها: أنّ الشك في المسألة الفرعيّة مسبّب عن الشك في المسألة الأصوليّة، فالشكّ في وجوب الجمعة و حرمتها مسبّب عن الشك في وجوب البقاء و العدول، فالفتوى بوجوب البقاء مزيل لموضوع الفتوى بوجوب الجمعة.

و الجواب أنّا قد فرضنا اجتماع الفتوائين للمجتهد و فرضنا مرجعيّته و حجيّة قوله في كلّ من الفتوائين في عرض واحد و لا تمانع بين حجيّتهما كما لا تمانع بين ذاتهما، و الحاصل قد يقال: إنّ الشكّ في حجيّة الفتوى في الفرع و عدم حجيّته، مسبّب عن الشك في حجيّة فتواه في الأصل و عدمها

فالارتكاز رافع للشك الثاني، و الفتوى في الأصل رافع للشك الأوّل و هذا غير صحيح؛ لأنّ دليل

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 460

الارتكاز يشمل فتاويه في عرض واحد و ليس الشك في أحد فتاواه مسبّبا عن الشك في الآخر.

ثالثها: أنّ الفتوى في الفرع كاشفة عن الحكم الواقعي الأوّلي و موضوع حجيّة الفتوى في الأصل هو التحير و عدم وجدان الطريق إلى الواقع الأوّلي فمع وجود الفتوى في الفرع يكون المقلّد واجدا للواقع فلا يبقى لحجيّة الفتوى الآخر في حقّه مجال؛ لارتفاع موضوعها و هو الشك في الواقع بحجيّة الفتوى الأوّل.

و الجواب أنّ موضوع الأمارة عدم القطع الوصفي بالواقع و مع الفتوى الفرعي شكّ المقلّد في الواقع وصفة تزلزله النفساني موجود و غير مرتفع، فكما يكون الفتوى الفرعي حجّة في حقّه فكذلك الفتوى الأصلي. نعم هذان الفتويان له حجّتان ذاتيّتان كفتوائين من مجتهدين حيّين متساويين، حيث إنّ فتوى الميّت بسبب حجيّته بفتوى الحيّ يصير حجّة الذاتية حال الفتوائين المذكورين، و كذلك في تخيير المقلّد من الابتداء في الأخذ بأيّهما شاء، فالدليل على التخيير في ذلك الباب هو الدليل في بابنا، و سيجي ء الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى في المبحث الآتي.

رابعها: أنّ ما ذكر كلّه بعد تسليم مقدّمة مسلّم و هي أنّ المقلّد بسبب جهله بالردع الشرعي إذا جاء بمقتضى فطرته بباب العالم الحي كان العالم أيضا قابلًا له و مصدّقا إيّاه و لكن هذه المقدّمة في محلّ المنع، فإنّ اللازم عليه عدم قبوله و طرحه من بابه بمقتضى الاستصحاب المذكور.

و الجواب أنّه بناء على هذا فاللازم عدم إفتائه بالاستصحاب أيضا و صيرورته بالنسبة إليه كعام آخر، فالحقّ أنّه شاكّ و مرجعه العالم

و هو بفطرته جاء إلى العالم صحيحا و حينئذ فيتم ما ذكرنا.

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 461

فصل هل تقليد الأعلم واجب أو لا؟

و الكلام هنا في مقامين:

الأوّل: هل قول المفضول مع وجود الفاضل غير معتبر و حاله كالعامي في عدم تحقّق مناط الحجيّة فيه رأسا، أو ليس كذلك، بل الحجيّة الذاتيّة فيه محفوظة؟ فعلى الأوّل لو احتمل وجود التفاضل بين العلماء وجب عليه الفحص لتمييز الحجّة عن اللاحجّة، و المقام الثاني: بعد إحراز الحجيّة الذاتيّة فمع معلوميّة اختلافهما في الرأي هل التكليف التخيير أو تعيين الفاضل؟

فاعلم أوّلا أنّ المقلّد لو اتّضح عليه بحسب فطرته تساويهما فلا كلام و ليس الحال هنا كالمسألة السابقة عند أداء فطرة العامي إلى استواء الحيّ و الميّت، و الفرق أنّه في تلك المسألة ورد الردع الشرعي فكان اللازم ردعه، و أمّا هنا فلم يرد ردع، بل إمّا ما ورد مهمل و إمّا مطلق، و إن شكّ و تردّد بحسب فطرته فمرجعه في إزالة هذه الشبهة لا محالة هو الفاضل؛ إذ تقليد المفضول في مسألة تقليد المفضول دوري.

ثمّ الفاضل ينظر فيما هو مقتضى الأدلّة، و ليس في هذا الباب كالباب المتقدّم استصحاب إلّا في بعض الفروض النادرة، كما لو انحصر المجتهد في زمان في شخص فقلّده العامي ثمّ وجد من هو دونه في العلم، فربّما يقال: إنّ استصحاب الحجيّة التّعيينية في حق الفاضل هنا جار و يتمّ في غيره بعدم الفصل، و فيه مضافا إلى ما في التمسّك بعدم الفصل هنا من الوهن أنّه منقوض بالمثل، كما إذا قلّد عن أحد المتساويين ثمّ صار الآخر أعلم فالعمدة هو النظر فيما هو قضيّة الأدلّة في المقامين المتقدمين.

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 462

فنقول: أمّا المقام الأوّل فيكفي خلوّ الروايات الواردة في باب التقليد و حجيّة الفتوى عن ذكر هذا القيد مع كثرتها و تظافرها مع ملاحظة أنّ التفاضل بين العلماء غير نادر لو لم نقل بأنّ التساوي نادر، فليس الحال فيه كالعدالة مع أنّ العدالة في بعضها مذكورة، و هذا لا عين و لا أثر منه فيها فإنّ ذلك ربّما يوجب القطع بأنّ ما هو المعيار و الملاك للحجيّة هو صفة العالميّة بدون دخالة الفضل و لا بأس بالتيمّن بذكر بعضها:

فمنها: الأخبار الخاصّة الواردة في موارد مخصوصة، مثل قوله: «إذا أردت حديثنا فعليك بهذا الجالس» «1» مشيرا إلى زرارة.

و قوله لابن أبي يعفور حين سأله عمّن يرجع إليه إذا احتاج: «ما يمنعك من محمد بن مسلم الثقفي إلخ». «2»

و قوله للعقرقوفي: «عليك بالأسدي يعني أبا بصير»، و قوله لعليّ بن مسيّب:

«عليك بزكريّا بن آدم القمي المأمون على الدين و الدنيا». «3»

و قوله لعبد العزيز بن المهدي حينما قال: ربما احتاج و لست في كل وقت ألقاك أ فيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه معالم ديني؟ فقال: «نعم» «4» و قوله لأحمد بن إسحاق حين قال من أعامل و عمّن آخذ و قول من أقبل؟ فقال: العمري ثقتي فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي و ما قال لك عنّي فعنّي يقول، فاسمع له و أطع فإنّه الثقة المأمون» «5» و قول الصادق- عليه السلام- لأبان بن تغلب: «اجلس في

______________________________

(1)- الوسائل: ج 18، ب 11، أبواب صفات القاضي، ص 104، ح 19.

(2)- المصدر نفسه: ص 105، ح 23.

(3)- المصدر نفسه: ص 106، ح 27.

(4)- المصدر نفسه: ص 107، ح 33.

(5)- المصدر نفسه: ص 100، ح 4.

رسالة في

الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 463

مجلس المدينة و أفت الناس فإنّي أحبّ أن يرى في شيعتي مثلك» «1» و قوله: «ائت أبان بن تغلب فإنّه قد سمع منّي حديثا كثيرا» «2» و منها: الأخبار العامّة مثل مقبولة عمر بن حنظلة «3» و مشهورة أبي خديجة «4» فإنّ إرجاعه المترافعين إلى مدرك الحكمين يدلّ على عموم المترافع فيه للشبهة الحكميّة و فصل الخصومة بحكم الحكم في الشبهة الحكميّة لا يتمّ إلّا بالتقليد و حجيّة الفتوى، و مثل التوقيع الشريف: «و أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا» إلخ «5» فإنّ الحوادث تشمل الشبهات الحكميّة قطعا، و مثل قوله في رواية الاحتجاج: «فأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا على هواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه» «6»، و مثل ما عن المحاسن في محكيّ البحار قال أبو جعفر- عليه السلام-: «و بقول العلماء فاتبعوا» إلى غير ذلك، هذا مضافا إلى قضاء الفطرة بذلك أيضا فإنّ ملاك رجوع الجاهل إلى العالم و هو كونه مقتدرا على الدخول في المسألة بطرقها الصحيحة بحيث صار احتمال خطائه في شخص كلّ مسألة موهوما مشترك بينهما.

بل نقول: لو فرض أنّ الكبرى في المقام كانت هي رجوع الجاهل إلى الأعلم كان الرجوع إلى العالم طريقا إليه فإنّ حكم اللّه واحد و بعد ما كان مؤدّى نظر العالم حكم اللّه و ليس نظر الأعلم وراء حكم اللّه فلا محالة يكشف نظر العالم عن نظر

______________________________

(1)- مستدرك الوسائل: ج 17، باب 11، أبواب صفات القاضي، ص 315، ح 14.

(2)- الوسائل: ج 18، ب 11، أبواب صفات القاضي، ص 107، ح 30.

(3)- المصدر نفسه: ص 99، ح 1.

(4)- المصدر نفسه:

ص 100، ح 6.

(5)- المصدر نفسه: ص 101، ح 9.

(6)- المصدر نفسه: باب 10، ص 94، ح 20.

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 464

الأعلم أيضا، ألا ترى في مراجعة المرضى إلى الأطبّاء حيث إنّهم مع القدرة على الأستاذ يكتفون بأخذ النسخة من التلميذ و هو طريق عندهم لموافقة الأستاذ أيضا.

و بالجملة أظنّ أنّ هذا المقام، أعني: اشتراك العالم و الأعلم في الحجيّة الذاتية و عدم كونه كالعامي ممّا ينبغي القطع به و عدم الارتياب فيه من جهة الإطلاقات و من جهة الارتكاز.

و أمّا المقام الثاني و هو كون فتوى الأعلم حجّة تعيينيّة عند العلم بالمخالفة مع فتوى غيره و عدمه، فاعلم أوّلا: أنّ الفتوى و الرأي لا موضوعيّة لهما بأن يكون اتّباع العالم مولّدا للحكم في حقّ المقلّد حتّى لا يكون تعارض في دليل التقليد بالنسبة إلى شموله للمتخالفين في الفتوى، بل شأنهما الطريقيّة و الإخبار عن الحكم الواقعي اللوح المحفوظي، و حينئذ يتحقّق التعارض لأنّ الحكم المشترك بين العالم و الجاهل واحد.

فإن قلت: حكم اللّه الواقعي و إن كان واحدا لكنّ الحكم الظاهري يختلف باختلاف الأشخاص على ما ذكرت من أنّ الخطاء في الاستنباط غير الخطاء في الطريق، و على هذا فأحد المجتهدين يخبر عن أنّ الحكم الظاهري كذا و الآخر يخبر بأنّه خلافه، و كلّ في موضوعه صحيح، و المقلّد بأيّهما أخذ دخل في ذلك الموضوع.

قلت: أمّا إذا كان مدرك الفتوى هو الطريق فلسان الطريق هو الإخبار عن الواقعي الأوّلي و لسان دليل حجيّته أيضا هو المشي على وفقه عملا و قولا و لازم ذلك صحّة الإخبار بمضمونه بعنوان الواقع، و أمّا إذا كان هو الأصل فموضوعه الشك بعد الفحص و

هو غير موجود في المقلّد لا أصالة و لا نيابة، أمّا الأوّل

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 465

فواضح، و أمّا الثاني فلوقوع السيرة على خلافه، فهذا الموضوع بعد تحقّقه في المجتهد يخبر هو بحكم الأصل بعنوان الواقع اللوح المحفوظي المشترك بين جميع العباد و المقلّد يأخذ عنه بهذا اللحاظ.

و بالجملة بعد فرض أنّ لسان نفس الفتوى هو الإخبار عن الواقع و لسان دليل حجيّته أيضا هو إعطاء الحجيّة بهذا الاعتبار فلا محالة يقع التعارض بين فرديها المتخالفين.

إذا عرفت ذلك فنقول: لا إشكال في حجيّتهما في المدلول الالتزامي أعني نفي الثالث، و أمّا بالنسبة إلى المدلول المطابقي، فالدليل الدالّ على أصل حجيّة الفتوى حاله حال الدليل على أصل حجيّة خبر الثقة في أنّه غير شامل لصورة التعارض سواء النقل و الارتكاز، فإنّ مناط رجوع الجاهل إلى العالم إذا كان مجرّد وصف العلم كما هو المفروض فالأعلميّة كالحجر المضموم جنب الإنسان و المفروض استواؤهما فيما هو الملاك فلا محيص عن تساقطهما، ثمّ الأخذ بأحوط القولين على حسب القاعدة الأوّليّة.

إلّا أنّه ربّما يمكن الاستدلال على تقديم الأعلم بمقبولة عمر بن حنظلة حيث حكم بترجيح الأفقه عند التعارض بتقريب أنّ صدر المقبولة و ذيلها يشهدان على أنّ الاعتبار بحكم القاضي في الشبهة الحكمية من باب عرفانه بأحكامهم- عليهم السلام- و أنّ ما يحكمه حكمهم من دون مدخليّة لوصف القضاء و فصل الخصومة في ذلك، ففي هذا الموضوع حكم بترجيح الأفقه عند التعارض، فإن قلنا بعدم مدخليّة وصف القضاء فيه أيضا فهو نصّ في المطلوب و إن شككنا من جهة احتمال أن تكون خصوصيّة الترجيح لأجل خصوصيّة المقام لعدم انقطاع

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص:

466

الخصومة بالتخيير، فلا أقلّ من استفادة أصل وجود الملاك في الأفقه في الأعم من المقام و مقام الفتوى فيدور الأمر في مقام الفتوى بين التخيير و التعيين، و الأصل فيه هو التعيين، هذا كلّه في صورة التفاضل.

و أمّا صورة التساوي في الفقاهة مع الاختلاف في الفتوى فاعلم أنّ في ذيل المقبولة و إن حكم بالاحتياط لكن لاحتمال دخل خصوصيّة المقام في ذلك لا ينافي الدليل على التخيير في مقام الفتوى لو كان، فنقول يمكن استفادته من طوائف من الأخبار.

الأولى: المقبولة المتقدّمة حيث حكم بالتّرجيح مع الأفقهية و لا يتمّ الترجيح إلّا مع وجود أصل الملاك في غير الأفقه و لازم ذلك التخيير عند التساوي.

و الثانية: الأخبار الواردة في علاج الخبرين المتعارضين الحاكمة بالتخيير فمنها: خبر سماعة عن أبي عبد اللّه- عليه السلام- قال سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه أحدهما يأمر بأخذه و الآخر ينهاه عنه كيف يصنع؟ قال: يرجئه حتى يلقى من يخبره فهو في سعة حتى يلقاه» «1» تقريب الاستدلال أنّ التخالف و التكاذب بين الرجلين لا يتحقّق بصرف نقل أحدهما قولا عن الغير و نقل الآخر خلافه عنه مع عدم جزم منهما بصدق مضمون ذلك القول و مطابقته مع الواقع، غاية الأمر يتحقّق الاختلاف بين قولي المنقول عنه و إذن فينحصر مورد الرواية في المفتيين المتخالفين، و يشهد لذلك قوله: أحدهما يأمر بأخذه و الآخر ينهاه عنه، و لا ينافيه قوله: كلاهما يرويه، لأنّ مدرك فتوى المفتي أيضا هو الروايات فهو يخبر عن محصّل ما استفاده من مجموع

______________________________

(1)- الوسائل: ج 18، ب 9، أبواب صفات القاضي، ص 77، ح 5.

رسالة في الاجتهاد و

التقليد (للأراكي)، ص: 467

الروايات فيكون الحكم هو السعة و التخيير.

و منها: مرفوعة زرارة «قال: سألت أبا جعفر- عليه السلام- فقلت: جعلت فداك يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان فبأيّهما آخذ؟ و في آخره بعد فرض التساوي قال: إذن فتخيّر أحدهما فتأخذ به و تدع الآخر». «1»

تقريب الاستيناس أنّ المستفاد من مثل التوقيع الشريف «و أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا» «2» أنّ المرجعيّة ليست في نقل الألفاظ بدون فهم معانيها و استنباط مداليلها، بل معنى المرجعيّة هو حجيّة ما استنبطه منها برأيه، غاية الأمر إنّ الفقيه يأخذه و يضمّه إلى سائر الأمارات التي بيده و المقلّد يأخذه و يعمل به و إذن فيدخل قول المفتيين في قوله يأتي عنكم الخبران المتعارضان لما عرفت من أنّ المفتي لا يفتي بشي ء إلّا و يعتقد أنّه مضمون الأخبار الصادرة عنهم- عليهم السلام- و مجرّد سهولة هذا المعنى و خفّة مؤنته في الصدر الأوّل و صعوبته و احتياجه إلى مقدّمات صعبة في هذا الزمان لا يوجب الفرق.

ثمّ على فرض الانصراف إلى الرواية المصطلحة المقابلة للفتوى نقول يمكن الاستئناس بعموم التعليل المستفاد من بعض هذه الأخبار من قوله «و بأيّهما أخذت من باب التسليم كان صوابا» فيستفاد منه أنّ مناط الجواز كون الأخذ على وجه التسليم فيجري ذلك في الفتوى أيضا.

الطائفة الثالثة: أخبار حجيّة قول العلماء فإنّها بإطلاقها شاملة لحال التعارض، لا يقال: ما الفرق بين هذه الأخبار و أخبار حجيّة أخبار الثقات، فكما

______________________________

(1)- مستدرك الوسائل: ج 17، ب 9، أبواب صفات القاضي، ص 303، ح 2.

(2)- الوسائل: ج 18، ب 11، أبواب صفات القاضي، ص 101، ح 9.

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 468

قلتم هناك بعدم الإطلاق لها بالنسبة إلى حال التعارض فلا بدّ أن تقولوا بمثله في المقام.

لأنّا نقول: بين مدلول الأخبار في المقامين فرق، فمدلولها في باب الخبر- حيث إنّ موارد الخبر وقائع متعدّدة فواحد منها في باب الصلاة و الآخر في الصوم و هكذا- يكون إعطاء الحجيّة التعيينيّة في كلّ فرد فرد، و هذا المعنى أعني الحجيّة التعيينيّة يمتنع تحقّقه في المتعارضين كليهما، و لأجل هذا إطلاق الأخبار غير شامل لحال التعارض و هذا بخلاف المقام، فإنّ العالم عبارة عمّن يعلم كلّ مسألة و يعرف حكم كلّ واقعة فعند تعدّد أفراد هذا العنوان لا معنى للحجيّة التعيينيّة لكلّ فرد بعد كفاية واحد منها للمرجعيّة، فمدلول الأخبار هنا حجيّة الواحد على البدل، و هذا المعنى يمكن حفظ إطلاقه بالنسبة إلى حال التعارض كما هو واضح، و بالجملة حال فتاوى المجتهد الواحد في تمام الوقائع من أوّل الفقه إلى آخره حال أخبار الثقة كذلك، فكما أنّ الحجيّة بالنسبة إلى فتاوى الفقيه الواحد تعيينيّة و لا معنى للتّخيير بينها فكذلك بالنّسبة إلى أخبار الثقة، و أمّا فتاوى فقيه مع فتاوى فقيه آخر فلا معنى لحجيّتهما تعيينا، بل المتعيّن هو الحجّية التخييريّة. و إن شئت قلت: إنّ الطبيعة في جانب الخبر أخذت بنحو الوجود السّاري فكلّ فرد متّصف بالحجيّة استقلالا.

نعم لو توارد في قضية واحدة أخبار عديدة فالحجية قائمة بالجامع من حيث المدلول المطابقي و الالتزامي معا مع التوافق في المضمون، و من حيث الالتزامي فقط مع التخالف فيه، و أمّا الطبيعة في جانب الفتوى فقد أخذت على نحو صرف الوجود.

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 469

لا يقال: إذا كان مأخوذا بهذا النحو و المفروض أنّ صرف

الوجود في الخارج قائم بالمجموع، فاللازم حجيّة المجموع و هو خلاف المقصود. لأنّا نقول: لو أمر المولى عبده بتصدّق درهم بصرف وجود الفقير و كان أفراده في البلد عشرة يكفي في الامتثال إعطاء الدرهم واحدا منهم بلا شبهة، فكذا الحال في الحجية في المقام فإنّها منتزعة على وجه و مستكشفة على آخر من الأمر بالأخذ بقول العالم و من المعلوم انطباق صرف وجود الأخذ بقول العالم على الأخذ بقول عالم واحد. نعم لا يمكن التمسّك بالسيرة و الارتكاز فإنّ مبناها على رجوع الجاهل إلى العالم من باب الطريقيّة، و المتعارضان لا طريقيّة لأحدهما، فالأخبار إن كانت تقريرا لهذا الأمر الارتكازي كان الأمر فيها أيضا كذلك، و لكن إذا كانت بصدد إفادة أمر زائد كما قلنا فلا مانع من التمسّك بإطلاقها.

لا يقال: هذا ينافي مع كون وصف العالم في هذه الأخبار مأخوذا على نحو الجهة التعليليّة كما هو الظاهر إذ معنى هذا أنّا إن احتملنا كون العالم جاهلا في خصوص شخص المسألة المسؤول عنها يسد الأخبار باب هذا الاحتمال لكونها متعرّضة لتطبيق العالم عليه و هذا غير متمشّ في مقام التعارض لعدم إمكان كون كليهما عالما فيتعارض الخبر بالنسبة إليهما.

لأنّا نقول: لا إشكال في صدق عنوان العالم على المتخالفين كليهما، إذ المراد به من كان بحيث و خلّي و طبعه يفيد قوله الجزم العادي بالواقع فيخرج منه العارف بباب الصلاة بالنسبة إلى باب الصوم، و أمّا المتخالفان في الفتوى فكلاهما موصوفان بهذا المعنى، نعم لا يفيد قولهما الجزم بملاحظة المعارضة بالمثل و لا ينافي هذا مع إفادة كلّ منهما الجزم لو خلّي و طبعه.

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 470

نعم ما ذكرنا مبنيّ على

استظهار إطلاق الأخبار لحال الاختلاف، و من القريب دعواه؛ إذ كيف يمكن سكوت هذه الأخبار عن حال الاختلاف مع كون مسألة إرجاع العوام إلى العلماء من المسائل المهمّة و المبتلى بها في جميع أزمنة الغيبة، و عدم كون اختلاف علماء العصر أمرا نادرا بل كثير الوقوع في جميع الأعصار، و هذا غير قيد العدالة و الذكورة فإنّ حالهما ليست على هذا المنوال.

و من هنا يظهر إمكان التمسّك بإطلاق الأخبار لدفع احتمال تعيين الأفضل عند التفاضل بعين هذا البيان، و الإرجاع إلى الأفقه في المقبولة خاصّ بباب المخاصمة لعدم قبوله للتخيير كما هو واضح.

و يمكن التمسّك بالمقبولة المتقدّمة بوجه آخر و هو أنّ قوله- عليه السلام-:

«انظروا إلى رجل منكم قد روى حديثنا. إلخ» مطلق شامل لما إذا كان غير هذا الرجل موجودا أو لا، و على الأوّل كان مخالفا أو موافقا، و على الأوّل كان أفقه منه أو مساويا، و ليس الإرجاع إلى الأفقه المذكور في الذيل دافعا لهذا الإطلاق إذ هو حكم في موضوع غير ما فرضه الصدر؛ فإنّ مفروض الصدر إرجاع المترافعين إلى رجل واحد، و في الذيل اختيار كلّ منهما رجلا و هذا موضوع آخر، فالتشقيق في هذه الصورة بين صورة كون المخالف أفقه و غيره ممّا يؤكّد إطلاق الصدر، فكأنّه كان من المسلّم عند السائل أنّهما لو اتّفقا على اختيار أحد هذين المتخالفين و لو مع العلم بتخالفهما ما كان به بأس و كان مفهوما حكمه من الصدر فخصّ السؤال بصورة عدم اتّفاقهما و اختيار كلّ واحدا من المتخالفين.

و حينئذ فإرجاع الإمام إلى الأفقه إمّا يستفاد منه الملاك الكلّي فيستفاد منه أنّه و لو كانا متّفقين على اختيار واحد أيضا لا يجوز

لهما اختيار غير الأفقه مع العلم

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 471

بالتخالف، و إمّا لا يستفاد هذه الكليّة منه لاحتمال كونه مخصوصا بمقام اختلافهما في الاختيار، فعلى الأوّل يقيّد إطلاق الصدر من جهة مساواة الأفقه و غيره مع التخالف و يبقى بحاله من جهة مساواة المتساويين مع التخالف، و على الثاني يبقى إطلاقه من كلتا الجهتين و على كلّ حال يدلّ على المدّعى.

هذا كلّه هو الكلام في استفادة أصل التخيير و هل بعد الفراغ عن أصله يجوز للعامي بعد الأخذ بفتوى فقيه، العدول منه إلى فقيه آخر أو لا؟ مجمل الكلام في المقام أنّ للعدول بحسب التصوّر ثلاثة أقسام:

الأوّل: أن يكون العدول بعد الأخذ فقط بدون اقترانه بالعمل.

و الثاني: أن يكون بعد الأخذ و العمل لكن في شخص تلك الواقعة كما لو صلّى بلا سورة على رأي أحدهما فأراد إعادتها على رأي الآخر الموجب للسورة.

و الثالث: أن يكون بعدهما لكن للواقعة المستقبلة.

أمّا القسم الوسط فتارة يبحث فيه من حيث عموم الأدلّة و إطلاقها و أنّه هل يستفاد منها جوازه، و بعبارة أخرى كون التخيير على وجه الاستمرار، و أخرى في أنّه بعد الغضّ عن دلالتها هل يمكن التشبّث بالاستصحاب في إثبات الجواز أم لا.

أمّا الأوّل: فالمفروض أنّ مفاد الأدلّة هو التخيير بين الأخذ بهذا الفتوى أو بذاك، و هذا المعنى قد تحقّق و حصل امتثاله بالفرض، و حصوله بعد ذلك تحصيل للحاصل.

إن قلت: لكن مقيّدا بالزمان اللاحق غير حاصل فيمكن اقتضاء الأمر له بهذا الاعتبار كما في لا تشرب الخمر حيث إنّ صرف وجود الشرب في جميع الآنات

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 472

مبغوض بحيث لو شرب في زمان

لم يسقط النهي، و وجهه مع عدم قابليّة صرف الوجود للتكرار ما ذكرنا من اعتبار التقييد بالأزمنة فصرف الوجود في كلّ زمان غيره في زمان آخر، و حينئذ نقول في المقام أيضا إنّ الوجوب التخييري بين أحد الفتوائين إذا لم يلحظ الأزمنة قيدا للأخذ الذي هو موضوعه كان الحال كما ذكرت لكن بعد أخذه كذلك لا مانع من تصوّر التكرار فيه.

قلت: الأخذ أعني عقد القلب على مضمون أحد الفتوائين أمر واحد ممتدّ، و لا يعتبر الأحداث فيه بالنسبة إلى ثاني الحال من وجوده، و قد فرضنا أنّ لسان الدليل اعتبار الإحداث، فكأنّه قال: أحدث الأخذ بهذا الفتوى أو أحدث الأخذ بذاك، و مجرد أخذ الزمان قيدا لا يجدي في تصوّر الأحداث في الآن الثاني؛ فإنّ ذات العقد عنوانه البقاء.

نعم القيد و هو الزمان حادث و المقيّد و إن كان حينئذ حادثا لكنّ الأمر بالإحداث فيه مساوق للأمر بإحداث الزمان، نظير ذلك زيد إذا أخذ متكثّرا بعدد الأزمان فإنّ ذات زيد متّصفة بالبقاء. نعم المقيّد منها بالزمان باعتبار القيد متّصف بالحدوث، و إن أبيت عن ذلك باعتبار أنّه يكفي في القدرة على إحداث المقيّد كون نفس الذات و لو بعنوان البقاء مقدورا، و بعبارة أخرى مقدوريّة أحد أجزاء منشأ انتزاع احداث المقيّد، لكن نقول: لم يؤخذ في متعلّق الأمر إلّا ذات الأخذ و إنّما لو حظ الزمان ظرفا، و قد عرفت أنّ حاله حال الأعيان في عدم التكرّر بتكرّر الزمان. و هذا بخلاف الحال في المثال فإنّ صرف الوجود للشرب في كلّ زمان و لو أخذ الزمان ظرفا غير صرف الوجود في الزمان الأوّل، فعلم أنّ لسان الأمر المذكور لو كان باقيا في الآن الثاني كما

كان في الأوّل كان طلبا لتحصيل الحاصل.

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 473

نعم يمكن هنا أمر آخر بلسان آخر و هو أنّ العمل الذي عملت تكون أنت مخيّرا بين الاستدامة عليه و بين رفع اليد عنه و الأخذ بالفتوى الآخر، لكنّ الجمع بين هذا اللسان و اللسان الأوّل في الدليل مستلزم للجمع بين اللحاظين نظير ما قيل في الجمع بين الاستصحاب و قاعدة الطّهارة في كلّ شي ء طاهر، إذ يلزم الجمع بين لحاظ الإحداث المتفرّع على عدم الفراغ من الوجود و لحاظ الإبقاء المتفرّع على الفراغ من أصل الوجود، و قد فرضنا أنّ معنى الأمر أيضا هو طلب الفعل و الإيجاد و الإحداث لا الأعمّ منه و من الإبقاء.

و ممّا ذكر يعرف الحال في الاستصحاب؛ فإنّ المتيقّن و هو قضيّة التخيير بين الإحداثين غير ممكن الجرّ في الزمان الثاني و ما يمكن جعله و إنشاؤه فيه و هو التخيير بين إبقاء هذا و احداث ذاك ليس له حالة سابقة.

فإن قلت: نحن نستصحب الحكم التعليقيّ الثابت للفتوى الآخر الغير المأخوذ فنقول: كان بحيث لو أخذ به كان حجّة و جاز العمل به فالآن كما كان.

قلت: الحجية الثابتة سابقا حجيّة مبهمة و قد فرضنا زوالها بواسطة تطبيقها على أحد طرفيها فهي مقطوع الزوال فحالها حال الملكيّة المشاعة في أنّه لا بقاء لها بعد الإفراز فلا يمكن استصحاب الملكيّة السابقة بعد الافراز، هذا حال القسم الوسط.

و أمّا حال القسمين الآخرين أعني: ما إذا عدل بعد الأخذ فقط أو بعد الأخذ و العمل لكن في الوقائع المستقبلة، فمحصّل الكلام فيهما أنّه لا بدّ من مراجعة أدلّة إرجاع العامي إلى الفقيه كأدلّة إرجاع الفقيه إلى خبر الثقة أو

إرجاعه

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 474

في المتعارضين إلى الأخذ بأيّهما شاء بقولهم: «بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك»، و أنّه ما معنى التقليد، و الرجوع في القسم الأوّل و الأخذ في القسم الثاني، هل المراد بالعنوانين هو التعبّد و البناء القلبي و الالتزام الباطني بالمضمون فهذا الفعل الجوانحي صار مأمورا به في هذه الأخبار في البابين، أو أنّ المراد بهما هو العمل الجوارحي على طبق مقول العالم أو العادل، و في الطائفة الثانية أعني:

«قولهم بأيّهما أخذت من باب التسليم» أيضا هو العمل الخارجي على طبق المضمون مسلّما يعني بانيا على كونه مطابقا لحكم اللّه الواقعي.

و يتفرّع على الوجهين أنّه على الأوّل يكون التكليف بالأخذ في الأخبار مختصّا بالمجتهد فالتخيير في الخبرين المتعارضين يكون للمجتهد، إذ الأخذ موقوف على فهم المضمون من نفس الخبر و هو مخصوص بالمجتهد، و على الأخير يكون مشتركا بين المجتهد و المقلّد، غاية الأمر إنّ الفهم مختص بالأوّل، فالتخيير لهما فعلى الأوّل يفتي المجتهد في الخبرين بما يختار، و على الثاني يفتي بالتخيير، فإن قلنا بأنّ التقليد هو الأخذ و التعبّد، غاية الأمر بقصد العمل فالحال كما تقدّم من أنّ الأخذ أمر وحداني إذا حصل في زمان فلا يعقل حصوله ثانيا. نعم الممكن إثبات اليد و رفعها عنه فلا يمكن استفادة الاستمرار لا بالدليل و لا بالاستصحاب.

و إن قلنا بأنّه العمل فلا إشكال في إمكان بقاء الأمر التخييري في كلا القسمين، أمّا في الأوّل فلأنّه بعد ما عمل بالتخيير لأنّ المفروض أنّه قبل العمل و أمّا في الثاني فلأنّ كل عمل واقعة على حدة يتصوّر فيه الإحداث، فإذا صلّى الجمعة في أسبوع على طبق فتوى أحد الفقيهين

فلا مانع من بقاء التخيير في الأسبوع الثاني؛ لأنّ مفاده: طبّق العمل الخارجي إمّا على هذا أو على ذاك، و هذا

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 475

المعنى من الممكن فيه اعتبار لزوم البقاء على ما اختاره في الواقعة الأولى في سائر الوقائع و اعتبار التخيير في كلّ واقعة من دون لزوم محذور أصلا، و كذلك لو فرضنا عدم الإطلاق في الأدلّة بالنسبة إلى ما بعد الاختيار لا مانع من جريان الاستصحاب.

و حيث إنّ الكلام مبنيّ على اختيار أحد الوجهين في الأخبار فنقول: من القريب جدّا أن يقال: إنّ المتفاهم عرفا من أمثال هذه الأوامر أعني قولهم: «لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يروي عنّا ثقاتنا» و قولهم: «فللعوام أن يقلّدوه» و قولهم: «بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك» إلى غير ذلك إنّما هو تطبيق العمل الخارجي دون التعلّم و العقد القلبي، و اللفظ و إن كان هو الأخذ لكن ينساق إلى الذهن أنّه قد عبّر عن نفس العمل الجوارحي بهذا التعبير.

فإن قلت: فما معنى حجيّة الخبرين أو الفتوائين المتعارضين حينئذ؛ فإنّه لو كان المأمور به هو الأخذ و التعلّم القلبي أمكن أن يقال: إنّ الحجية تتبع الأخذ فبأيّ أخذ و تشبّث كان هو حجّة بينه و بين ربّه، و على هذا لا بدّ أن يكون المبهم بين الأمرين حجّة و لا معنى لحجيّة المبهم بالنسبة إلى المدلول المطابقي.

قلت: لا مانع منه كالملكيّة المشاعة فاختيار تعيينه بيد المكلّف يجوز له إخراجه عن الإبهام تعيينه على هذا أو ذاك.

و حاصل ما ذكرنا أنّ المتبادر من الأخبار هو العمل باعتماد على قول العالم لا مجرد عقد القلب على المضمون فلا يحصل امتثال هذه

الأخبار بمحض البناء القلبي و لو لأجل العمل ما لم يلحقه العمل فالمقصود الأصلي هو العمل لكن

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 476

لا مطلقا بل بقيد كونه مأخوذا عن العالم و بانيا على أنّه على وفق حكم اللّٰه، و لهذا يتصوّر التخيير فيما إذا كان مضمون أحد العنوانين الوجوب و الآخر الإباحة فلا يلزم التخيير بين الفعل و الترك، فإنّه إمّا يفعل على أنّه ممّا قال بوجوبه المفتي، و إمّا يترك على أنّه ممّا قال بإباحته المفتي بمعنى أن يكون هذا وجهة لعمله و هو غير قصد القربة.

فإن قلت: يلزم عدم الإجزاء لو طابق عمله قول أعلم العصر و لكن لم ينقدح في ذهنه هذا المعنى.

قلت: نعم سقوط الإعادة و القضاء عنه في اللاحق إنّما يكون باطلاعه على فتوى الأعلم فلو لم يطّلع و مات و كان حكم اللّٰه على خلاف ما أفتى به الأعلم كان مستحقّا للعقوبة لو قصر بعد التفاته في الفحص عن قول الأعلم.

فإن قلت: ما الفرق بين جعل الأخذ بالمعنى القلبي نفس متعلّق الأمر في هذه الأخبار أو قيدا لمتعلّقه حيث قلت إنّ في الأوّل يلزم اجتماع اللحاظين لو أراد التخيير حدوثا و بقاء، و قلت في الثاني بعدم لزومه، فإنّه يقال: لو أخذ القيد هو الأخذ بالمعنى الحدوثي لا يمكن ملاحظة البقاء و لو انعكس، انعكس.

قلت: لحاظ الحدوث إنّما يجي ء من قبل الهيئة لا المادّة فإذا جعل تحت الهيئة الأخذ كان المعنى أحدث الأخذ، و إذا جعل متعلّقه العمل مع تقيّده بالأخذ فالمعنى أحدث العمل المتقيّد بالأخذ، و أمّا القيد فهو أعمّ من الحدوث و البقاء، و على هذا فالأقوى جواز العدول و إن كان الأحوط الترك

لكن إلى المساوي و أمّا إلى الأعلم فواجب بمقتضى المقبولة كما يأتي بيانه إن شاء اللّٰه تعالى بعيد هذا.

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 477

فصل قد عرفت إطلاق أخبار الباب لحال التعارض على خلاف أخبار حجيّة الخبر

لأجل اختلافهما في اللسان من حيث إفادة الحجيّة التخييريّة و التعيينيّة فنقول: هذا الإطلاق بعينه يمكن دعواه في طرف نفي تعيّن الأعلم، فإنّ التفاضل أمر غالبيّ في تمام الأعصار فكيف يمكن سكوت الأخبار عنه مع كونها بصدد إعطاء القاعدة الكليّة المستمرّة في تمام أزمنة الغيبة و عدم التمكّن من المعصوم، و لكن يمكن تقييد الإطلاق من هذه الجهة بما في المقبولة من تعيين الأفقه عند التعارض.

بيان ذلك: أنّ الظاهر من صدر الرواية أنّ إرجاع المترافعين إلى المتّصف بالصفات المذكورة إنّما هو لأجل كون أحكامهم مودوعة عنده فإذا راجعوهم وجدوا الأحكام عندهم فتنفصل الخصومة بوصول تلك الأحكام إليهم؛ و ذلك لظهور قوله- عليه السلام-: «قد روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا»، فإنّه يتبادر منه أنّ وجهة النظر كون هذا الرجل عيبة علومهم و محلّ أحكامهم، فأوّلا منعهم عن مراجعة الجبت و الطاغوت ثمّ أمرهم بمراجعة أحكامهم فناسب بيان محلّ هذه الأحكام، فقالوا في هذا المقام أحكامنا عند هذا الشخص الكذائي ثمّ في هذا المقام أبدى السائل سؤالا و هو صورة اختلافهما في تعيين المرجع و اختلاف المرجعين في الحكم فقال في الجواب: الحكم بالنسبة إلى كليهما حتى من أخذ بقول غير الأفقه الرجوع إلى قول الأفقه، فيعلم منه أنّ العدول إلى الأعلم واجب استدامة فكذا ابتداء لعموم العلّة المستفادة.

فإن قلت: لعلّ لخصوصيّة المورد و كونه المخاصمة مدخلا في هذا الحكم.

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 478

قلت: قد عرفت أنّ الصدر كان بمقام

بيان محلّ يرجع إليه لمعرفة الأحكام فهذا النظر محفوظ في هذه الفقرة أيضا فكأنّه قال: في الصورة التي فرضت يكون أحكامنا عند من هو أفقه.

لكن لا بدّ من تحقيق أنّ المستفاد من هذه الفقرة التقييد بصورة المعارضة الواقعيّة فلو شك في أصل المعارضة كان حجيّة قول المفتي مشكوكة لاحتمال معارضة الغير مع كونه أعلم، أو أنّ المتيقّن منه صورة المعارضة المعلومة، نعم في هذه الصورة جعل المرجع هو الأعلم الواقعي لا الأعلم المعلوم، الأقوى هو الثاني لأنّ مفروض السؤال هو هذه الصورة أعني: كون المعارضة مفروغا عنها و ملتفتا إليها، فلا يمكن الأخذ بإطلاق الحوادث لا لوجود القدر المتيقّن بل لوجود ما يصلح للقيديّة في الكلام، و يظهر الفرق بينهما بملاحظة قول المولى في جواب السؤال عن زيد: أكرم العالم، و قوله في جواب السؤال عن استعمال الإناء المفضض: اعزل فيك عن موضع الفضّة، فإنّه في الأوّل لا يتوهّم أحد كون الزيديّة قرينة لإرادة الخاص من قوله العالم؛ فإنّه لو أراد الخاص لقال أكرمه، نعم زيد قدر متيقّن، و أمّا في الثاني فلا يمكن الحكم بإرادة جنس الفضّة كما لو كانت قضيّة ابتدائية، فإنّ الواجب حينئذ الحكم بحرمة وضع الفم على جنس الفضّة مطلقا، و أمّا بعد سبق هذا السؤال فمن المحتمل إرادة المتكلّم هذه الفضّة الخاصة و كان اتّكاله على مورد السؤال.

و حينئذ فنقول: مقامنا من هذا القبيل فإنّ فرض السائل صورة معلوميّة المعارضة دون الأعلميّة، فلا جرم لم يبق للجواب إطلاق بالنسبة إلى أصل المعارضة من حيث معلوميتها و عدمها و يبقى إطلاقه بالنسبة إلى الأعلم، و حينئذ فإطلاق الصدر و إن كان بملاحظة الاحتفاف بهذا الذيل يصير ساقطا و لكن إطلاق سائر

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 479

الأخبار محفوظة فنحكم بالتخيير بين الفتاوى مع عدم علم بالمعارضة و بعد العلم يكون المرجع هو الأعلم، فالفحص عن الأعلم في صورة الشك في المعارضة غير واجب، و بعد إحراز المعارضة واجب، هذا هو الحال في الفتوى.

و أمّا الخبر فالواجب فيه الفحص في صورة الشك في أصل المعارضة و بعد إحرازها عن عدم الأقوى؛ و ذلك لأنّ دليل التخيير في الخبر علّقه على المعارضة الواقعية و عدم الأقوى، و أمّا أدلّة أصل الحجيّة فناظرة إلى حال عدم المعارضة الواقعيّة، فلا جرم عند تردّد الأمر بين المعارضة و عدمها نشكّ في تحقّق موضوع الحجيّة في الخبر و البناء على حجيّته موقوف على الفحص و وجدان عدم المعارض أو وجدان عدم أقوائيته.

ثمّ إنّ في المقبولة ذكر الأعدل و الأصدق في الحديث و الأورع مع الأفقه فهل المرجّح هو المجموع أو كلّ مرجّح مستقلّ؟ الظاهر الثاني، بقرينة قول السائل: فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على الآخر، فإنّه يعلم منه أنّ المعيار مطلق الفضل و لا خصوصيّة لوصف الاجتماع فيستفاد منه أنّ مع التساوي في الفقاهة لو كان أحدهما أورع فهو المقدّم.

إن قلت: الظاهر كون الرواية بصدد المرجّحات في الرواية لا في الفتوى؛ فإنّ الأورعيّة و الأصدقيّة و الأعدليّة بهذا المقام أنسب منها بباب الفتوى بل و كذا الأفقهيّة؛ فإنّ الأفقهيّة في مقام الفتوى إنّما تصير مرجحا لكونه أبصر بفهم معنى الرواية، و في المقام قد فرض أنّ بيد كلّ منهما رواية غير ما بيد الآخر، و أيضا فالمرجّحات المتأخّرة من مخالفة العامّة و موافقة الشهرة أصدق شاهد على ما ادّعينا فإنّهما للترجيح في الرواية بلا شبهة.

رسالة

في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 480

قلت: قد عرفت أنّ ظاهر صدر الرواية إراءة الطريق إلى الأحكام و أنّها عند المتّصف بكذا و هذا الظاهر في الفقرة المتأخرة أيضا محفوظ بقرينة قوله: الحكم ما حكم به أعدلهما- إلى أن قال:- و لا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر، و أمّا مناسبة الأورعيّة و الأعدليّة و الأصدقيّة بباب الفتوى فهي عين مناسبة وصف العدالة بالمعنى الزائد على تعمّد الكذب فإنّ المجتنب عن المعاصي يكون الوثوق به أكثر، و هذا الملاك في الأورع و الأصدق موجود، و أمّا مناسبة الأفقهيّة فهي غير منحصرة بصورة اتّحاد اللفظ و الاختلاف في فهم معناه، إذ مع اختلاف اللفظ أيضا يكون للأفقهيّة مدخل في أقوائيّة الحكم فإنّه ربّما كان هناك خصوصيات و دقائق اطّلع عليها الأفقه لمزيد فقاهته و اختفت على الآخر أوجبت رفع يده عن حديث الآخر و الإفتاء بمضمون معارضه، أو كان في أحد رجال سنده له خدشة اختفت على الآخر، و أمّا الفقرات المتأخّرة فهي صريحة في الترجيح في الرواية و لا يوجب ذلك رفع اليد عن ظاهر ما تقدّمها ثم يبقى صورة كون أحدهما أفقه و الآخر أورع و لا يستفاد من الرواية حكمه فتبقى الإطلاقات سليمة.

فصل في أنّه كيف يفتي المجتهد للعامي في موارد يكون مدرك فتواه الاستصحاب

و مفاد الاستصحاب حرمة النقض على المتّصف بعنوان اليقين و الشك، فاللازم أوّلا إفتاؤه بالحكم السابق حتّى يحصل له اليقين الطريقي و الشك حاصل له بالفرض، ثمّ إفتاؤه بالحكم في الحال، و هذا خلاف ديدن العلماء بالنسبة إلى مقلّديهم فإنّهم يفتون بنتيجة الحكم الاستصحابي لمقلّديهم من دون مراعاة لهذا المطلب فما السرّ في ذلك.

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 481

فنقول: قد يحتمل أن يكون السرّ أنّ اليقين

في قوله- عليه السلام-: «لا تنقض اليقين بالشك» مأخوذ على وجه الطريقيّة المحضة من دون دخالة له في الموضوع أصلا فكأنّه قال: قد جعلت الملازمة بين الثبوت النفس الأمري للشي ء و بين بقائه في ظرف طروّ الشك، فالعلم بالثبوت إنّما يحتاج إليه لتحقيق أحد المتلازمين حيث إنّ القطع بصرف الملازمة لا يكفي للقطع بأحد الطرفين، فالمجتهد يرى المقلّد شاكّا في الحكم و يرى الثبوت النفس الأمري له أيضا، فيراه موضوعا للملازمة الجعليّة مع علمه بأحد طرفيها فيفتيه بالطرف الآخر.

فإن قلت: الشك لا محالة موضوع و المراد به هو الشك في البقاء و الشكّ في الوجود الثاني إنّما يتحقق بعد الفراغ من الوجود الأوّل فلا يكفي هذا التقريب أيضا لمشموليّة المقلّد للدليل؛ لأنّ شكّه لم يتعلّق بالبقاء.

قلت: أوّلا نمنع اعتبار كون الشك في البقاء إذ ليس في الدليل إلّا عدم نقض اليقين بالشك و لا يلزم من هذا صحّة الجمع بين القاعدة و الاستصحاب في العبارة فإنّ ملاحظة الجامع بين الشك في البقاء و الشك في الحدوث في لفظ الشك غير ملازمة مع ملاحظة الجامع بين الحكم بالملازمة بين المعلوم و البقاء و الحكم بالملازمة بين العلم و المعلوم في الحكم بالملازمة؛ فإنّ لحاظ الإطلاق في الموضوع ليس بمعنى لحاظ عدم القيد بل هو بمعنى عدم لحاظ القيد.

و ثانيا يكفي في الشك في البقاء كونه أحد الاحتمالات فيصدق على من يحتمل الحدوث في هذا الآن و البقاء فيه و العدم فيه إمّا بعدم الحدوث من السابق أو بالارتفاع في اللاحق أنّه شاكّ في البقاء و الارتفاع، هذا و لكن هذا الوجه مخالف لما هو الظاهر من دخالة وصف اليقين كالشك في الموضوع، و حينئذ فالذي ينبغي

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 482

أن يقال إنّ لصفة اليقين على وجه الطريقية و إن كان مدخل في الموضوع لكن يكفي حصوله في المجتهد، بيان ذلك: أنّ القيود المأخوذة في الدليل تارة تعتبر في صرف الحكم العملي فواجدها يفترق في العمل من فاقدها كما في الحاضريّة و المسافريّة و الاستطاعة و نحو ذلك.

و أخرى تعتبر في الحكم العملي و القولي معا فإذا صار المجتهد مستطيعا لا يجوز أن يفتي بوجوب الحجّ على جميع الناس مستطيعا و غيره، و إذا صار ذا يقين و شك يجوز له الإفتاء بوجوب صلاة الجمعة مثلا على جميع الناس سواء من تيقّن و شك و غيره، وجه الفرق أنّ في الأوّل وجوب حجّ كلّ شخص علّق على استطاعة نفسه و هنا أيضا و إن كان حرمة نقض كلّ شخص علّق على يقين نفسه و شكّه و لكن معنى النقض ليس صرف العمل الجوارحي على نهج السابق بل يشمل التجزّم القلبي و الإفتاء و الشهادة أيضا، فكما كان له في زمان اليقين التجزّم القلبي بأنّ وجوب الجمعة حكم اللّٰه المشترك بين تمام الناس فكان يأتي بالصلاة بهذا الوجه، فحينئذ أيضا يجوز له ذلك و كما كان في الموضوعات يشهد جاز له الشهادة في حال الشكّ بعنوان أنّه واقع، و كما كان له الإفتاء بأنّه حكم جميع الناس جاز له ذلك في هذا الحال؛ لأنّ كلّ ذلك معنى إبقاء ما كان و عدم نقضه.

فلا يقال: إنّ الجائز له إنّما هو الإفتاء للمتيقنين و الشاكّين، فإنّه يقال: معنى عدم النقض إبقاء عين ما كان و لا شبهة في تعدّد القضيّة العامّة مع الخاصّة فلا يصير الثاني إبقاء للأوّل، و المفروض

في المقام أنّ ما كان إنّما هو قضيّة عامّة و هو حكم وجوب الجمعة على جميع الناس فكيف يصير عدم نقضه قضيّة خاصة و هو حكم وجوبها على جماعة خاصّة، و بالجملة منشأ هذا التوهّم اختصاص أصل

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 483

حكم عدم النقض و التعبد به بالموضوع الخاص و الغفلة عن أنّه لا ينافي مع تعميم المتعبّد به و المحكوم به لكونه قضيّة مادّة النقض، ثمّ إذا أفتى المجتهد يجب على العامي الأخذ بقضية حجيّة قوله و كونه كسائر آرائه رأيا صادرا عن الخبرة واجب الاتّباع بحكم الارتكاز.

فصل بناء على وجوب تقليد الأعلم ابتداء و استدامة

لو احتمل في أحد المجتهدين ذلك ابتداء أو استدامة أو احتمله في كلّ منهما ابتداء، ففي الصورة الأولى يكون من الدوران بين التخيير و التعيين و في الأخيرتين من الدوران بين التعيينين بناء على أنّ العدول من أحد المتساويين غير جائز، و يمكن إثبات التخيير في الأولى و الأخيرة و تعيين عدم العدول في الوسط باستصحاب عدم الأعلميّة، حيث إنّه لم يجعل عنوان المساواة موضوعا في شي ء من الأدلّة و إنّما الأدلّة مفادها التخيير مطلقا ابتداء و وجوب عدم العدول كذلك استدامة حسب الفرض و إنّما خرج عن هاتين الكليّتين صورة كون أحدهما أعلم، فاستصحاب عدم الأعلميّة لنفي ما علّق عليها من وجوب الرجوع إليه معيّنا لا مانع منه.

لا يقال: عدم الأعلميّة بنحو مفاد كان الناقصة كما هو الموضوع كما يحتاج إلى إحراز الموضوع يحتاج إلى إحراز أصل العلم في المفضل عليه و لا يقين بعدم الأعلميّة في أزمنة اتّصاف الآخر بالعلم، لأنّا نقول: يصدق على الطّفل في حال تولّده أنّه ليس بأفقه و لا حاجة إلى ملاحظة طرف خاصّ يلاحظه الموازنة

بينهما فإنّ نفس كون الشخص أعلم العصر معنى لا يحتاج إلى ملاحظ شي ء آخر معه، و لا شبهة في عدم تحقّقه في حال الولادة، و هذا العدم و إن لم يكن منشأ للأثر في

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 484

ذاك الزمان لكن يكفي في الاستصحاب كون المستصحب ذا أثر في ظرف الشك بعد إحراز سائر الأمور المعتبرة من القوّة المستنبطة و العدالة و غيرهما وجدانا أو تعبّدا، فإنّه لم يعتبر في الأدلّة تقيّد العدم المذكور بهذه الأمور حتى يقال إنّ هذا الاستصحاب لا يثبت التقيّد؛ بل إنّما اعتبرت بنحو الظرفيّة لهذا العدم.

و بعبارة أخرى إنّما اعتبر اجتماع هذه الأمور و العدم المذكور في الشخص المفروض الوجود و المفروض تكفّل الاستصحاب تقيّد العدم بهذا الشخص، و من هنا يكون الأمر في هذا المقام أسهل من المرجّحات الخبريّة لو أردنا استصحاب عدمها عند الشك كما لو شككنا في مخالفة العامة في أحد الخبرين ليكون الحكم تعيّن الأخذ به و عدمها ليكون هو التخيير، فلا يمكننا استصحاب عدم المخالفة في الموضوع المفروض، بل لا بدّ من استصحاب العدم الأزلي المتحقّق أزلا بعدم الموضوع و القول بأنّه لم يعتبر في الأدلّة تقيّده بالموضوع المفروض، و يكون حال هذا الاستصحاب حال استصحاب عدم المخالفة للكتاب و السنّة في الشروط عند الشك في شرط أنّه مخالف للكتاب و السنّة أو لا.

فصل لا شبهة في اعتبار العقل في المفتي و كذا البلوغ

فإنّ الصبي عمده و خطأه واحد، و رجوع الجاهل إلى العالم و إن كان ارتكازيّا لكن ليس من الارتكازيّات التي لا يمكن الردع عنها بعموم أو إطلاق؛ لكونها مغفولا عنها للعامّة كما لا يخفى، و لا في اعتبار الايمان و العدالة، فيكفي في إثباتهما المقبولة حيث يعلم

منها أنّ أصل العدالة كأصل الفقاهة ممّا لا بدّ منه في جواز الرجوع، و كذا ما في خبر الاحتجاج

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 485

من قوله: فأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه. إلخ، و إنّما الكلام في الشروط الأخر التي ذكروها.

منها: الحريّة و الرجوليّة و طهارة المولد، فإنّه إن كان الوجه هو انصراف الأدلّة بملاحظة أنّ الغالب عدم اتّفاق اجتماع الفقاهة و العدالة في المرأة أو العبد أو ولد الزنا فهذه الغلبة غير موجب للانصراف، و إن كان الوجه في التقييد بالرجوليّة كون لفظ العلماء مثلا جمعا للمذكر، ففيه أنّه مثل لفظ الفقراء في آية إِنَّمَا الصَّدَقٰاتُ لِلْفُقَرٰاءِ و فيما لو أوقف ملكا على الفقراء في أنّه أريد به جنس المتلبّس بهذا المبدأ.

و منها عدم التكالب على حطام الدنيا و جمع زخارفها كما في العروة الوثقى فإن كان الوجه فيه قوله في خبر الاحتجاج: فأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا لهواه مطيعا لأمر مولاه، ففيه أنّه إنّما أريد بهذا الكلام اعتبار العدالة لا أمر زائد بقرينة قوله فيما قبل هذه الفقرة: «فإنّ عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماء هم بالكذب الصراح و أكل الحرام و الرشا و تغيير الأحكام عن وجهها بالشفاعات و النسابات و المصانعات، و عرفوهم بالتعصّب الشديد الذي يفارقون أديانهم، و أنّهم إذا تعصّبوا أزالوا حقوق من تعصّبوا عليه و أعطوا ما لا يستحقه من تعصّبوا له من أموال غيرهم و ظلموهم من أجلهم و علموهم يتقارفون المحرّمات و اضطرّوا بمعارف قلوبهم أنّ من فعل ما يفعلونه فهو فاسق إلى أن قال- عليه السلام-:

و كذلك عوام أمّتنا إذا عرفوا من فقهاءهم الفسق الظاهر و

العصبيّة الشديدة و التكالب على حطام الدنيا و حرامها و إهلاك من يتعصّبون عليه و إن كان لإصلاح أمره مستحقّا و بالترفرف بالبر و الإحسان على من تعصّبوا له و إن كان للإذلال و الإهانة مستحقّا فمن قلّد مثل هؤلاء الفقهاء فهم مثل اليهود الذين

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 486

ذمّهم اللّه تعالى بالتقليد لفسقة فقهائهم، و قال فيما بعد الفقرة المذكورة: فأمّا من ركب من القبائح و الفواحش مراكب فسقة فقهاء العامّة فلا تقبلوا منهم عنّا شيئا و لا كرامة «1» الحديث.

فإنّ المتبادر من تلك الفقرة بعد ملاحظة هذه الفقرات أنّ المراد بمخالفة الهوى عدم الوقوع في المحارم بواسطة الاشتهاء النفساني كما كان ديدن علماء اليهود على ما وصفهم، فهو عبارة أخرى عن قوله: مطيعا لأمر مولاه و حافظا لدينه و صائنا لنفسه، فالمراد أنّه إذا كان ميلة و هواه على شي ء و كان أمر مولاه على خلاف ذلك الشي ء، فلا يعتني بهواه و يطيع أمر مولاه، لا أنّه إذا اشتهى نفسه من المباحات من طعام لذيذ أو جمع مال من طريق حلال كان صادّا لنفسه و إلّا فاللازم أن يكون أكل الجبن مع الخبز مثلا إذا كان عن شهوة لا بغرض شرعي قادحا في الإفتاء و يكون اللازم في جميع أعماله قصد أمر شرعي و لا يلتزم به أحد.

فصل هل يعتبر في استصحاب عدم الأعلميّة المتقدّم الفحص أو لا

كما هو الحال في الأصول الجارية في الشبهات الموضوعيّة، فإنّ المقام منها لأنّ معنى الشبهة الموضوعيّة أن يكون رفع الشك خارجا من وظيفة الشرع، و الشك في الأعلميّة من هذا القبيل فلا بدّ في هذا المقام من ملاحظة أنّ الأصل الأوّلي ماذا يقتضي من وجوب الفحص فيحتاج في عدمه إلى المخرج

حتى يلحظ الدليل المخرج، و أنّ موضوعه عنوان عام يشمل المقام أولا، و من عدم وجوبه حتى يكون الأمر بالعكس.

______________________________

(1)- الاحتجاج: ج 2، باب احتجاجات الإمام العسكري- عليه السلام- ص 457.

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 487

فنقول: قد يحتمل أن يكون الأصل الأوّلي عدم الفحص لأنّ أدلّة الأصول رتّبت الحكم على عنوان الشكّ من غير تقييد بشي ء آخر و الشك صادق قبل الفحص أيضا فلزوم الفحص محتاج إلى دليل.

و لكن يمكن أن يقال كما أفاده في مجلس بحثه الشريف سيد المشايخ العظام الميرزا الشيرازي- طاب ثراه- في مقام لزوم التروّي في الشكوك الصلاتيّة على ما نقله عنه شيخنا الأستاذ الأعظم- دام أيّام إفاضاته الشريفة- أّن لفظ الشك و لا يدري إنّما يصدق في حقّ الإنسان بحسب المتفاهم العرفي إذا لم يكن تحصيل العلم و إزالة الشك خفيف المؤنة سهل المأخذ، فلا يصدق على من لا يدري ما قدر دين زيد عليه حاضر الوقت، لكن لو لاحظ الدفتر الموضوع بين يديه لعلم لثبته ذلك فيه أنّه لا يعلم قدر الدين و شاكّ فيه، و كذا من يشك في مطلب و الذي يعلمه و يحصل العلم من قوله حاضر يمكن السؤال عنه لا يصدق عليه الشاك في هذا المطلب فمادّة الشك لغة و إن كانت صادقة لكنّها عرفا منصرفة عن هذه الموارد فيحسبون مثل ذلك علما، و إنّما يصدق الشك إذا تفحّص عن الأمارات القريبة الوصول حسب المتعارف مع عدم وجدان المزيل و استقرار الشك، و على هذا فلا بدّ في الموارد التي قلنا بعدم لزوم الفحص من التمسّك بالإجماع.

و حينئذ فنقول: لم يثبت إجماع على عنوان الشبهة الموضوعيّة بل القدر المتيقّن منه الشبهة الموضوعية

التي مرجعها إلى الشك في الحكم الجزئي مثل الشك في أنّ هذا الإناء خمر أو لا، الذي مرجعه إلى الشكّ في حرمة هذا المائع الشخصي فيبقى غير ذلك و هو الشبهة الموضوعية الراجعة إلى الشك في الأحكام الكلّية تحت القاعدة من لزوم الفحص، و المقام من هذا القبيل؛ فإنّ الشك في الأعلميّة و إن

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 488

كان داخلا في ميزان الموضوعيّة و لكن الشكّ في الحقيقة راجع إلى لزوم اتّباع قول هذا في الأحكام الكلّية أو قول ذاك أو أنّ هنا تخييرا بينهما.

هذا مضافا إلى إمكان دعوى أنّ القدر المتيقّن من مورد الإجماع هو الشبهات التحريمية و في باب الطهارة الخبثية و الحدثية من الوجوبية، فيبقى مطلق الشبهات الوجوبيّة من غير الباب المذكور تحت القاعدة، ألا ترى أنّه لو شك في بلوغ المال النصاب لا يمكن استصحاب عدم البلوغ بدون الفحص، أو في الاستطاعة لا يمكن استصحاب العدم كذلك، أو في بلوغ المسافة في السفر حدّ المسافة الشرعية مع إمكان الرجوع إلى من يخبره لا يجري استصحاب عدم البلوغ، أو وجوب التمام و هكذا، و ما نحن فيه من هذا القبيل أيضا.

فصل لا إشكال فيما إذا توافق الحيّ و الميّت في مسألة البقاء و العدول كما لا إشكال فيما إذا أفتى الميّت بالبقاء و الحيّ بالعدول

فإنّ الحي صار بالفرض قدرا متيقّنا بالارتكاز و لهذا رجع إليه العامي بارتكازه فيكون قوله مقدّما.

و لو أفتى الحيّ بالبقاء و الميّت بالعدول فيشكل الحال حينئذ و يكون حال فتوى الميّت بالعدول حال إخبار السيّد- قدّس سرّه- بعدم حجية خبر العادل و حال فتوى الحي بالبقاء حال أدلّة حجيّة الخبر.

و قد استشكل هناك بأنّه يلزم من وجود الحجيّة عدمها؛ إذ لو كان خبر الواحد حجّة لكان خبر السيّد حجة، و حجيته راجعة إلى عدم حجية كلّ خبر

واحد حتى نفسه، و أجاب شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- هناك بأنّ المحذور إنّما لزم من دخول خبر السيّد تحت العموم، فإذا أخرجناه سلم من المحذور، و أجبنا

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 489

نحن أخذا منه- طاب ثراه- بأنّ المحذور في العام الذي أخبر به السيّد المنحلّ إلى مداليل من جهة دخول نفسه في جملة تلك المداليل، فإذا أخرجناه سلم عن المحذور فيبقى التعارض بين دخول هذا الفرد من حيث سائر مداليله تحت عموم دليل الحجيّة، و بين دخول سائر أفراد خبر الواحد و خروج هذا الفرد بجميع مداليله، ثمّ أجبنا هناك بتعيّن الثاني من وجهين:

أحدهما: كون الأوّل مستلزما للتخصيص المستبشع، و الثاني: كونه موجبا لاندراج الكلام في سلك الألغاز و المعمّيات إذ في مقام التعبير عن عدم الحجيّة قد عبّر باللفظ الدالّ على الحجيّة.

فنقول في مقامنا أيضا يرد أصل الإشكال فنقول أوّلا: يلزم من حجيّة قول الميّت التي هي مفاد قول الحيّ القائل بالبقاء عدم حجيّته؛ لأنّ من جملة فتاوى الميّت قوله في المسألة الأصولية بأنّ قول نفسه غير حجّة، و يرد جواب الشيخ- قدّس سرّه- بأنّ المحذور إنّما لزم من دخول هذا القول في جملة ما أفتى بحجيّته الحي فنلتزم بخروجه، ثم يرد جوابنا من أنّ المحذور في هذا القول الراجع إلى مداليل منها عدم حجيّة نفس هذا القول من جهة هذا المدلول الأخير، فإذا التزمنا بخروج هذا المدلول من الحجيّة ارتفع المحذور، فينقدح حينئذ التعارض بين دخول هذا الفرد من حيث سائر المداليل و بين دخول سائر الأقوال الفرعيّة للميّت.

و لا يرد هنا الوجهان المتقدّمان؛ إذ ليس هنا قضيّة عامّة صادرة عن المعصوم- عليه السلام- حتى نقول بما ذكرنا بل

المتحقق في المقام فتويان للحي لا يمكن الأخذ بكليهما لأنّه إذا صار بمنزلة عقل المقلّد و نزل نفسه شاكّا بدله فرأى هنا طائفتين من الأحكام كانتا ثابتتين في حقّ المقلّد سابقا. إحداهما الفتاوى الصادرة من

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 490

الميّت في الفروع من وجوب الجمعة و جلسة الاستراحة و نجاسة الغسالة و العصير و غير ذلك، و الثانية هذه الفتوى الأصوليّة الناظرة إلى تلك الفتاوى الفرعيّة و المسقطة لها عن الحجيّة، فنرى أركان الاستصحاب بالنسبة إلى كلتا الطائفتين حاصلة.

و حينئذ فقد يقال حال هاتين الفتوائين من الحي كالفتوائين المتعارضين من مجتهدين متساويين تكون قضية الأدلّة تخيير العامي في الأخذ بأيّهما شاء.

و لكن يمكن أن يقال: لا محيص عن تقديم الاستصحاب في الفتوى الأصولية؛ إذ لو أريد بالاستصحاب في الفتوى الفرعيّة استصحاب نفس الأحكام المفتي بها للميّت من الوجوب و الحرمة في المواقع الخاصّة من حيث إنّها أحكام واقعيّة أوّلية، ففيه: أنّ الشك اللاحق و إن كان متحقّقا لكن ليس في البين يقين سابق أمّا الوجداني فواضح عدم تحقّقه، و أمّا التعبّدي فهو و إن كان ثابتا في حال حياة المفتي لكن ارتفع بعد مماته لا أنّ العامي يرى تخطئته بل بمعنى أنّه ليس له الآن طريق شرعي بثبوت تلك الأحكام في الزمان السابق.

نعم كان له هذا الطريق سابقا لكن مجرّد هذا غير مثمر و إلّا لكفى اليقين الوجداني السابق مع طروّ الشك الساري. و بالجملة ليس حال الطريق التعبّدي هنا بأقوى من القطع الوجداني الملحوق بالشك الساري، ففي كلا المقامين الحجّة في القطعة السابقة كانت موجودة و زالت في اللاحقة، و لا يمكن الحكم في اللاحق بثبوت الحكم في السابق بل

بثبوت الحجّة عليه فيه.

و إن أريد استصحاب الحكم الظاهري الجائي من قبل دليل اتّباع قول الميت فإن أريد استصحابه مقيّدا بكونه كذلك أعني منوطا باتّباع الميّت و معلولا منه فهذا و إن كان يتحقّق فيه اليقين و الشكّ لكن هذا الشكّ مسبّب عن الشك

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 491

في حجيّة قوله و لزوم اتّباعه، فالاستصحاب في الفتوى الأصولي رافع لهذا الشك نظير استصحاب الطهارة في الماء الرافع للشك في الثوب.

و إن أريد استصحاب ذات الحكم الظاهري بجعل كونه مقول قول الميّت جهة تعليلية له لا تقييديّة فاحتمال ثبوته في الآن اللاحق إمّا من جهة العلّة السابقة و هذا قد سدّ بابه الاستصحاب في الفتوى الأصولي الحاكم بانتفاء العليّة عن العلة السابقة، و إمّا من جهة علّة أخرى و المفروض القطع بعدمها إذ مفروض الكلام في الفروع المتخالف فيها رأي الميّت و الحيّ.

نعم المحتمل إنّما هو ثبوت الحكم الواقعي الأوّلي لاحتمال مصادفة قول الميّت معه و هو غير كاف في صحّة الاستصحاب لاختلاف الحكمين باختلاف الموضوع و كونهما مترتّبين كما قرّر في محلّه فكيف يجعل حفظ أحدهما إبقاء للآخر، نعم الاستصحاب بالنسبة إلى الجامع بين الحكمين جار بناء على جريان القسم الثالث من استصحاب الكلّي.

و إن أريد بالاستصحاب في الفتوى الفرعي استصحاب المسألة الأصوليّة أعني: حجيّة الفتوى الفرعي، ففيه: أنّ هذا و إن كان أركان الاستصحاب فيه متحقّقة و لكنّه محكوم للاستصحاب في الفتوى الأصولي لأنّ الشك في حجية الفتاوى الفرعيّة مسبّب عن الشك في حجيّة ذلك الفتوى الأصولي لأنّ عدم حجيّة تلك الفتاوى أثر حجيّة هذا الفتوى، فالأصل المثبت لحجيّته مزيل للشك في أثر حجيّته، فإنّ أثر الحجيّة الأخذ بالمفاد، و

مفاد الفتوى المذكور عدم حجيّة تلك، و ليس إثبات هذا الأثر مبنيّا على الأصل المثبت لأنّ هذا من الآثار الثابتة لذات الحجيّة بالأعمّ من الظاهر و الواقع نظير وجوب الامتثال الثابت للأعمّ من الإلزام الظاهري و الواقعي، و ليس هكذا الحال في الاستصحاب في الفتاوى

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 492

الفرعيّة فإنّ المتحقق من طرفه صرف التنافي و عدم إمكان الجمع مع ذلك الاستصحاب و على هذا فالواجب بعد سقوط فتاوى الميّت عن الحجيّة هو الرجوع إلى الحيّ بمقتضى الارتكاز هذا.

إلّا أن يقال: إنّ معارضة الاستصحاب الجاري في الفتوى الأصوليّة بالجاري في الفتوى الفرعيّة أو حكومته عليه إنّما هما بعد الفراغ عن أصل جريانه في حدّ ذاته و هو في محل المنع؛ فإنّ الفتوى المذكورة بالنسبة إلى مداليله الأخر غير عدم حجيّة نفسه و هي عدم حجيّة الفتاوى الفرعيّة غير قابلة للمشموليّة لدليل الاستصحاب إذ يلزم من مشموليّته أن يترتّب على حجيّة مفادها خلاف مفادها و ما كان هذا شأنه غير قابل للدخول تحت العموم، فإنّ معنى حجيّة قول الميّت بأنّ الفتاوى الفرعيّة ليست بحجّة بعد مماتي سقوط تلك الفتاوى عن المرجعيّة للمقلّد و حينئذ فلا محالة يكون المرجع هو الحيّ، و على حسب الفرض هو يفتي بوجوب البقاء و بقاء تلك الفتاوى على المرجعيّة فهذا نظير ما إذا قال السيّد:

أخبار الآحاد ليست بحجّة إلّا خبرا كذا، و كان ذلك الخبر مفيدا لحجية أخبار الآحاد، فإنّ شمول دليل حجيّة خبر الواحد لخبر السيّد بالنسبة إلى مدلول غير عدم حجيّة نفسه من عدم حجيّة سائر الأخبار أيضا يكون حينئذ غير جائز إذ يلزم أن ينتج حجيّة هذا المدلول نقيض مفاده.

إن قلت: قول الميّت

سقوط فتاواه الفرعيّة عن الحجيّة الاستقلاليّة و صلاحية الاعتماد إليها بنفسها، و لا ينافي هذا لأنّ يركن إليها من جهة فتوى فقيه آخر.

قلت: كلّا بل قوله هو السقوط الرأسي و عن القابليّة للحجيّة بالمرّة، و بعبارة أخرى هو ينفي الركون إلى هذه الفتاوى سواء كان الركون بداعويّة نفسها أم بداعويّة شي ء آخر.

رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، ص: 493

فإن قلت: نعم و لكنّ العدول إلى الحيّ المفتي بالبقاء و الركون إلى تلك الفتاوى ليس من جزء مفاد ذلك القول الذي نريد استصحاب حجيّته بل مفاده فقط عدم صلاحية تلك الفتاوى للركون و وجوب العدول جاء من قبل الارتكاز و أنّه لا بدّ للإنسان من مرجع، فإذا لم يكن الميّت كان لا محالة هو الحي، و انتهاء أمر الحجيّة إلى نقيض المفاد إنّما يلزم على الأوّل دون الثاني.

قلت: كونه من جزء المفاد و عدمه لا فرق بينهما بعد كون المرجع هذا حاله فإنّهما في ملاك المحذور مشتركان بعد أنّ هذا الاستصحاب يلجئ المقلّد في الفروع إلى الفقيه الحيّ ثمّ هو يفتيه على حسب مذهبه بالرجوع في الفروع إلى فتاوى الميّت، فيلزم من عدم الرجوع وجوب الرجوع و لو بالملازمة، و هذا يكفي في المحذوريّة، و إذن فيبقى الاستصحاب في الفروع سليما عن المزاحم، هذا مضافا إلى أنّ المسؤول عنه في الفتاوى الفرعيّة هو المسألة الأصوليّة أعني أنّه من المرجع فيها فلا ينافي مخالفة الحيّ للميّت في نفس الفرع مع إفتائه بالبقاء في المسألة الأصوليّة، و هذا بخلاف الحال في الفتوى الأصوليّة فإنّها بنفسها مسؤول عنها، و يكون الحي هو المرجع فيها، و في مثل هذه المسألة لا معنى للاستصحاب بعد أنّ المجتهد يخطئ الميّت فيكون

قاطعاً بالخلاف فلا حالة سابقة حتى يستصحب، و بالجملة الاستصحاب في الفتوى الأصوليّة غير متحقّق الأركان.

الحمد للّه أوّلا و آخرا و ظاهرا و باطنا و السّلام على محمّد و آله الطاهرين في 4 رجب الحرام من 1342

________________________________________

اراكى، محمد على، رسالة في الاجتهاد و التقليد (للأراكي)، در يك جلد، ه ق

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.